إن عنوان هذا البحث يستدعي ابداء ثلاث ملاحظات أولية:
الملاحظة الأولى: تتعلق بموضوع البحث وهو الشفافية.
إن مفهوم الشفافية له معنيان:
بالمعنى الأول: إن الشفافية تشكل الصفة التي تظهر الحقيقة كما هي .
بهذا المعنى، تتحقـق الشفافية بموجب تصرف وهو الإظهار.
بالمعنى الثاني : إن الشفافية هي ميزة ما يمكن رؤيته من الجميع .
بهذا المعنى، إن الشفافية تستتبع "الاتاحة" "أو امكانية الوصول".
برأينا، إن دراسة كاملة حول مفهوم الشفافية تست وجب الاحاطة بمعنييه أي الشفافية بمعنـى "إظهار" من جهة، والشفافية بمعنى "إتاحة" من جهة أخرى.
الملاحظة الثانية: تتعلق بمجال البحث وهو التحكيم الدولي.
إن التحكيم الدولي هو التحكيم الذي يكون موضوعه حل نزاعٍ دولي.
وهو على نوعين: تجاري واستثماري.
إن التكلم عن الشفافية في التحكيم الدولي قد يثير الدهشة لسببين:
السبب الأول: هو أن مفهوم الشفافية تم استعماله في مجالات قانونية أخرى .
درجت العـادة على التكلم عن شفافية: القانون الاداري، قانون الموجبات والعقود، قـانون الـشركات، القـانون المالي، قانون المنافسة قانون الضرائب، وقانون مؤسسة التجارة الدولية وليس على شفافية قانون التحكيم الدولي.
السبب الثـاني : هو أن التحكيم يتمتع تقليدياً بطابعين : طابع خصوصي بمعنى أنه خاص بالأطراف ويستبعد الغير، وطابع سري بمعنى أنه يفرض على الأطراف موجب (التزام) عدم إفصاح.
بالمبدأ، إن هذين الطابعين يتناقضان مع الشفافية.
فهل من مجال للبحث عن الشفافية في التحكيم الدولي؟
في الحقيقة، لا يجب التوقف عند هذين السببين لأن مفهوم الشفافية معروفٌ فـي التحكـيم الدولي.
من جهة، إن الشفافية موجودة عبر مصطلحات التحكيم الدولي. وبالفعل إن نصوص قـانون التحكيم الدولي تستعمل العبارات التالية: "إفصاح"، "إبراز"، "علنية"، "نـشر"، "اتاحـة ".
إن هـذه المصطلحات توحي بالشفافية. من جهة أخرى، إن الشفافية أصبحت هدفاً تسعى إليه الدول ومراكز التحكيم الدولية .
وذلك ثابت من خلال إعتماد نصوص تكرس الشفافية مثل اتفاقية الأمم المتحدة بـشأن الـشف افية فـي التحكيم التعاهدي بين المستثمرين والدول بتاريخ 10 كانون الأول 2014 ،وقواعـد اليونـسترال بشأن الشفافية في التحكيـم التعاهدي بين المسـتثمرين والدول لعام2013 ،والنـصوص التـي اعتمدتها غرفة التجارة الدولية في العام 2016 خصيصاً لتعزيز شفافية التحكيم.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بالمنهجية التي يتوجب اتباعها للكلام عن الـشفافية فـي التحكـيم الدولي.
إن هذه المنهجية تهدف إلى عرض الاتجاهات الحالية في التحكيم الدولي. إن هذه المنهجية تتميز بالنقاط الآتية:
أولاً: إن هذه المنهجية لا تهدف إلى البحث عن كل مظاهر الشفافية في التحكيم الدولي. إنما تهدف إلى إعطاء صورة عن المسار الذي يسير نحوه التحكيم الدولي في مجال الشفافية.
ثانياً: إن هذه المنهجية لا تقتصر على عرض حلول القانون الوضعي المتعلقة بالشفافية . إنما تتضمن عرضاً للأفكار المتداولة حول الشفافية في مجتمع التحكيم الدولي.
ثالثاً: إن هذه المنهجية تحدد الاتجاه الذي يسير نحوه قانون التحكيم الـدولي عـن طريـق الاجابة على السؤال الآتي: هل يتجه قانون التحكيم الدولي نحو تعزيز الشفافية أو نحو تقييدها؟
للإجابة على هذه الإشكالية يقتضي دراسة الشفافية بالنسبة للأشخاص المعنيين بالتحكيم مـن جهة (I)وشفافية بالنسبة للأعمال التحكيمية من جهة أخرى (II) .
I.شفافية الأشخاص:
إن شفافية الأشخاص المعنيين بالتحكيم تؤدي إلى الكلام عن شفافية فئتين من الاشـخاص : المحكّمون ( أ) والمحتكمون(ب ).
أ. شفافية المحكّمون:
في ما يتعلق بالمحكم، تشكل الشفافية موجباً (إلتزاماً) مفروضاً عليه إذ أن على المحكـم أن يفصح عن أية ظروف من شأنها إثارة الشكوك حول استقلاله وحيدته.
إن هذا الموجب مكرس في جميع القوانين الوطنية وفي جميع أنظمة مراكز التحكيم الدولية. وهو يشكل "مبـدأً أساسـياً فـي التحكـيم الـدولي" un principe fondamental de international arbitrage’l في إطار التحكيم الدولي، إن الاتجاه الحالي يـسير نحـو تعزيـز موجب الإفصاح المفروض على المحكم.
وهذا الاتجاه ثابت من خلال:
1- تعزيز الطبيعة الأمرية لهذا الموجب.
2- تعزيز مدة هذا الموجب.
3- تعزيز مدى هذا الموجب.
4- تسهيل إثبات مخالفة هذا الموجب.
5- تعزيز جزاء هذا الموجب.
1 .تعزيز الطبيعة الأمرية لموجب الإفصاح:
يعتبر موجب الإفصاح متعلقاً بالنظام العام بحيث لا يحق للفرقاء إعفاء المحكم من موجـب الإفصاح قبل المباشرة بالتحكيم. وهذا هو الحال، مثلاً، في لبنان حيث قضى الاجتهاد اللبناني بأن موجب الإفصاح يعتبر "قاعدة آمرة هدفها تأمين الحقوق الأساسية للمتقاضين عبر محاكمة عادلـة متوازنة، لا يكون فيها حياد المحكم موضع شك" .
2 .تعزيز مدة موجب الإفصاح:
يتجه المجتمع التحكيمي الدولي نحو تعزيز موجب الإفصاح من خلال إطالة مدتـه بحيـث يعتبر هذا الموجب موجباً مستمراً يدوم طالما تستمر الإجراءات التحكيمية وحتى صدور القـرار التحكيمي أي حتى خروج القضية عن يد المحكم. إن هذا الإتجاه يتجلى من خلال ثلاث ظواهر:
6- الظاهرة الأولى هي إعتماد نصوص جديدة تنص صراحة على استمرارية الموجب طيلة مدة التحكيم مثل المادة 10 من قانون التحكيم الإماراتي الجديد الذيصدر في 3 أيـار 2018 والمادة 11 من قانون التحكيم القطري الجديد الصادر في عام 2017 .
7- الظاهرة الثانية هي إطالة مدة موجب الإفصاح من خلال تعديل النصوص التي كانـت تقيد هذا الموجب بفترة قبول المحكم لمهمته . وهذا هو الحال في فرنسا حيث تم استبدال المادة 1452 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي بالمادة1456 التـي تلـزم المحكم بالإفصاح قبل وبعد قبول المحكم لمهمته.
8- الظاهرة الثالثة هي إطالة مدة موجب الإفصاح من خلال توسع الإجتهـاد فـي تفـسير النصوص التي قيدت الموجب بفترة قبول المحكم لمهمته والقضاء بأن هذا الموجب يبقى قائماً ولو طرأت ظروف بعد تعيين المحكم . وهذا هو الحال في لبنـان حيـث قـضت محكمة البداية في بيروت بتاريخ 24/2/2014 بأن هذا الموجب يـستمر طيلـة فتـرة الإجراءات التحكيمية على الرغم من أن المادة769 من قـانون أصـول المحاكمـات 9 المدنية اللبناني لم تفرض هذا الموجب إلا عند قبول المحكم لمهمته .
3 .تعزيز مدى موجب الإفصاح:
إن موجب الإفصاح يفرض على المحكم أن يفصح عن أية ظروف من شأنها إثارة الشكوك حول استقلاله وحيدته. ويعتبر الإجتهاد الفرنسي أنه يقتضي تقدير هذه الظروف بعد الأخذ بعين الإعتبار العنصرين التاليين :
العنصر الأول:هو علنية (Notoriété ) الظروف المشكو منها. فاذا كان الظرف المـشكو منه يشكل واقعة مشهودة أو شائعة أو معروفة من الجميع أو من المحتكم، فلا يعود المحكم ملزما بالإفصاح.
العنصر الثاني : هو التأثير المتوقع للظرف المشكو منه على قـرار المحكـم فـي ذهـن المحتكم. فإذا كان الظرف المشكو منه لا يخلق شكوكاً مشروعةً او معقولةً لدى المحـتكم، فـلا يعود المحكم ملزما بالإفصاح.
إن هذه المنهجية، التي تدعو إلى تقدير موجب الإفصاح بالرجوع إلى هـذين العنـصرين ، توفّق بين مصلحة المحتكم الذي يجب أن يكون على يقين من جميع الظروف التي قد تؤثر فـي استقلالية وحيدة المحكم وبين فعالية التحكيم الذي لا يجب أن تعطله سوء نية المحتكم الذي يستغل أي ظرف تم الإفصاح عنه لرفض التحكيم . وبالتالي، لا يكون المحكم ملزماً بإفصاح كل شـيء ويقتصر على إفصاح الظروف غير الشائعة والتي من شأنها أن تؤثر بشكل متوقع على قـرار المحكّم في ذهن المحتكم.
على الرغم من هذا الحل الذي يقيد موجب المحكم، نلاحظ أن الاتجاه الـسائد اليـوم فـي التحكيم الدولي يسير نحو تعزيز الشفافية عبر توسيع مدى موجب الإفصاح.
إن هذا الاتجاه ملموس من خلال اعتماد الحلول الآتية:
أولاً، إن الظروف التي يجب على المحكم الإفصاح عنه اليست محصورة بحالات رد القضاة المنصوص عليها في قوانين الإجراءات الوطنية. إن عولمة العلاقات المهنيـة أدت إلـى قيـام علاقات جديدة بين الأطراف لا يمكن تقييدها بحالات رد القضاة العدليين . وهذا هو الحل المعتمد ومراكز التحكيم الدوليـة وفـي قـانون اليونـسترال 11 في معظم القوانين الوطنية وفي الاجتهاد النموذجي. وتجدر الإشارة إلى أن المبادئ التي وضعتها النقابة الدولية للمحامين(IBA (حـول تضارب مصالح المحكمين في التحكيم الـدولي ( in interest of Conflict on Guidelines Arbitration International (لعام 2014 والتي تشكل خلاصة المعايير الدولية المعتمدة فـي هذا المجال لحظت، على سبيل المثال لا الحصر، أكثر من أربعين حالة تضارب مـصالح تلـزم المحكم بالإفصاح.
ثانياً، إن الظروف التي يجب على المحكم الإفـصاح عنهـا هـي الظـروف التـي تثيـر 12 الشكوك حول استقلاله وحيدته في ذهن الأطراف . بمعنى آخـر، يجـب أن نعتمـد معيـاراً ذاتياً من أجل تحديد ما إذا كان يتوجب علـى المحكـم الإفـصاح ولا يكفـي أن تكـون هـذه الظروف لا تثير الشكوك في ذهن الغير أو فـي ذهـن المحكـم لإعفـاء هـذا الأخيـر مـن الإفصاح.
ثالثاً، إن الظروف التي يجب الإفصاح عنها لا تقتصر على علاقة المحكّم بالمحتكمين.
9- إن المحكم ملزم بالإفصاح عن علاقته بمحامي أحد الأطراف . وتجدر الإشارة إلى أن إعمال هذا الحل في مجال التحكيم الدولي هو دقيق إذ أن أصحاب الخبرة فـي هـذا المجال تربطهم علاقات مهنية وعلمية واجتماعية. ويكفي ملاحظة المشاركة الكثيفـة في المؤتمرات التي تعقد حول مادة التحكيم للتحقق من هذا الأمر. فهل تعتبر مشاركة المحكّم في مؤتمر تحكيمي مع محامي أحد الأطراف ظرفاً من الظروف التـي تثيـر الشكوك حول استقلال وحيدة المحكّم؟ اعتبرت محكمة التمييز الفرنسية بأن مثل هـذه المشاركة لا تكفي بحد ذاتها لإثارة الشكوك حول استقلالية وحيدة المحكم لا سيما إذا . نلاحظ كان المحكّم قد شارك في هذا المؤتمر لمرة واحدة وأنه لم يكن محاضراً فيه أن محكمة التمييز الفرنسية استندت إلى وقائع خاصة بالحالة المعروضة عليها لإعفاء المحكّم من موجب الإفصاح وأنه من الممكن أن تشكل المشاركة في مؤتمرات التحكيم ظرفاً يثير الشكوك في ذهن المحتكمين في الحالة التي ترافقها ظروف أخرى تزيـل عنها الطابع العلمي البحت.
10- إن المحكّم ملزم بالإفصاح عن علاقته بباقي المحكّ مين وبالخبراء الذين تم الإسـتماع لهم . وقضت المحاكم الفرنسية أن المحكّم يجب أن يفصح عن وجود عقد عمل كان يربطه بأحد المحكّمين .
11- إن المحكّم ملزم بالإفصاح عن علاقته بالغير المهتم بـالنزاع المعـروض أمامـه . واعتبرت محكمة التمييز الفرنسية أن المحكّم ملزم بالإفصاح عن توكيلـه مـن قِبـل شركة الكهرباء الفرنسية التي لم تكن طرفاً في النزاع في الحالة التـي كانـت هـذه الشركة تعاقدت مع المدعى عليها في التحكيم
رابعاً، إن المحكّ م ملزم بالإفصاح عن ظروف حتى ولو كان يجهلها كان من المفروض فيه أن يعلمها . في النزاع الذي انتهى بصدور هذا القرار، أُعيب على رئـيس الهيئـة التحكيميـة انتماءه الى مكتب للمحاماة كان مستشاراً للشركة الأم لإحدى جهات التحكيم. أما الحجة القانونيـة التي اثارها الفريق الآخر فهي جهل المحكّم شخصياً لهذه الوقائع. لم تأخذ محكمة الاستئناف بهذه الحجة، واعتبرت أن هذه الوقائع من شأنها ان تثير الشكوك في حياد المحكّم واستقلاليته. يـستفاد من هذا الحكم أن موجب الإفصاح يلزم المحكّم بأن يبحث بصورة دائمة عن اية واقعة قد تـؤثر في حياده في سياق المحاكمة التحكيمية .
خامساً، يعتبر هذا الموجب "موجب نتيجة " بمعنى أن المحكّ م يكون مسؤولاً بمجرد التخلف عن الافصاح. ولا مجال للزعم بان المحكّم ملزم فقط بالسعي لأجل اعلام المحتكم أو بأنه ملـزم بأن يقوم بكل ما في وسعه لأجل إعلام هذا الاخير.
سادساً، فرضت بعض المحاكم على مراكز التحكيم التي قامت بتعيـين المحكّـــم" موجـب التحري عن صفات المحكّم الأساسية" .
4 .تسهيل إثبات مخالفة موجب الإفصاح:
إن تعزيز موجب الإفصاح قاد بعض المحاكم إلى تسهيل إثبات مخالفته. من جهة، اعتبرت بعض المحاكم أن عبء الإثبات يقع على عاتق المحكّ م الـذي عليـه أن يثبت تنفيذ هذا الموجب . وهذا ما قررته الغرفة الابتدائية الأولى في بيروت الناظرة في قضايا التحكيم بتاريخ 18/2/2015 التي قضت بأن عبء إثبات تنفيذ موجب الإعلام بطرق جدية يقـع على المحكّم نظراً لكونه شخصاً ممتهناً. يستفاد من هذا القرار بأن عبء الإثبات يقع على عـاتق المحكّم بموجب صفته.
من جهة أخرى، ترفض المحاكم إلزام المحتكمالاستعلام عن ظرفٍ حصل بعد قبول المحكّم لمهمته . وبالتالي، لا يفرض على المحتكم أن يثبت أنه استكمل الاستعلام عن المحكّم بعد بداية الاجراءات التحكيمية .
5 .تعزيز جزاء موجب الإفصاح:
إن الإخلال بموجب الإفصاح يؤدي إلى تطبيق الجزاءات التالية:
أولاً، إذا تم اكتشاف الظروف المثيرة للشكوكقبل صدور الحكم التحكيمي ، يكون من حـق الفرقاء طلب رد المحكّم وفقاً للأصول التي حددتها قواعد التحكيم.
ثانياً، إذا تم اكتشاف الظروف المثيرة للشكوك بعد صدور الحكم التحكيمي ، يكون من حـق الفرقاء طلب بطلان القرار التحكيمي وطلب رفض الاعتراف بالقرار التحكيمي واعطائه الصيغة التنفيذية.
ثالثاً، إن مخالفة موجب الإفصاح تشكل مخالفة موجب تعاقدي ناتج عن العقد مـع المحكّـ م (arbitre’d contrat ( وهــذه المخالفــة تــؤدي الــى تطبيــق احكــام المــسؤولية التعاقدية contractuelle Responsabilité بحق المحكّم. إن هـذه المـسؤولية مختلفـة عـن مسؤولية المحكّم بسبب الخطأ الجسيم في اصدار القرار التحكيمي لأ نها مبنية على خطأ آخر وهو مخالفة موجب الإفصاح.
تجدر الإشارة إلى أن المسؤولية التعاقدية الناشئة عن مخالفة موجب الإفصاح ليست بـديلاً عن دعوى ابطال القرار التحكيمي وهي عادة تكون لاحقة لهذه الدعوى الاخيرة.
يستفاد مما تم عرضه أن المجتمع التحكيمي الدولي يتجه نحو تعزيز الشفافية عبـر توسـيع نطاق موجب الإفصاح المفروض على المحكّم. إن هذا الإتجاه يطال المحتكمين.
ب شفافية المحتكمين :
إن الاتجاه نحو تعزيز الشفافية في التحكيم الدولي يطال المحتكمين.
من جهة، نلاحظ أن الشفافية مفروضة على الفرقاء الذين يتوجب عليهم إبـراز المـستندات التي أمر المحكمون بإبرازها (1 ).
من جهة ثانية، يشير خبراء التحكيمإلى أنه يستحسن إلزام الفرقاء بالإفصاح عـن بعـض الظروف التي تؤثر في سير الإجراءات التحكيمية (2 ).
1 - الشفافية الواجب التقيد بها:
إن بعض القوانين الوطنية وأنظمة مراكز التحكيم الدولية أعطت المحكّم سلطة إلزام أحد الأطراف إبراز مستند في حيازته. إن هذه السلطة المستمدة من القواعد المطبقة على الإجراءات التحكيمية تهدف إلى تعزيز الشفافية وإلى مؤازرة المحكّمين في سبيل جلاء الحقيقة.
إن ممارسة هذه السلطة تستدعي ابداء الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى : إن قرار المحكمين بهذا الشأن يضع على عاتق الأطراف موجباً بـإبراز المستند الذي يكون بحيازتهم. عملياً، يطلب أحد الأطراف من الهيئة التحكيمية أمر الطرف الآخر إبراز مستند بحيازته من أجل إثبات واقعة معينة.
الملاحظة الثانية : إذا تمنع الفريق المفروض عليه إبراز المستند دون تبرير، يحـق للهيئـة التحكيمية أن تتخذ أحد التدابير الآتية:
- الحكم على الطرف الممتنع بغرامة إكراهية.
- استخراج جميع النتائج القانونية المترتبة عن الإمتناع لجهة النزاع في الأساس.
- طلب مساعدة القضاء الوطني الذي يقع في نطاقه مكان التحكيم .
الملاحظة الثالثة : في بعض الحالات، يكون تمنّع الطرف الملزم إبراز مستندٍ مبرراً بالسرية المهنية أو بسرية الأعمال. في هذه الحالة، لا يمكن إلزام هذا الطرف إبراز المستند الذي يتمتـع بحضانة. إن هذا الحل الذي يؤدي إلى ترجيح السرية على الشفافية لا يمكن اعتماده في جميع الحالات ويجب اعتماد الدقة في هذه الحالة. برأينا، إن سرية المستند لا تمنع المحكّم من إلزام أحد الأطراف بإبراز المستند عند توافر الشرطين الآتيين :
الشرط الأول: هو ضرورة إبراز المستند من أجل إثبات الواقعة المزعومة.
الشرط الثاني: هو التناسب بين مساوئ انتهاك السرية مع ضرورة إثبات الواقعة القانونية.
إن هذا الحل يوفق بين السرية من جهة والشفافية من جهة أخرى.
2 - الشفافية المستحسن التقيد بها:
بسبب ظهور ممارسات تحكيمية جديدة، يدعو خبراء التحكيم إلى تعزيز الشفافية عبر إلـزام الفرقاء الإفصاح عن ظروف يمكنها التأثير على الإجراءات التحكيمية.
بالنسبة للظروف التي يدعو خبراء التحكيم إلى الإفصاح عنها، ينبغي التوقف عند حالتين:
- تمويل التحكيم من الغير.
- وجود إجراءات موازية.
الحالة الأولى: تمويل التحكيم من الغير:
إن تمويل التحكيم من الغير هو الحالة التي يقوم فيها شخص ثالث ليس طرفاً فـي التحكـيم بتمويل كل أو جزء من التكاليف القانونية المترتبة على أحد الأطراف م قابل نسبة مئويـة متفـق عليها مسبقاً من أي مكسب في حال وجود التحكيم الناجح. وإذا فشلت هذه القضية يفقد الممـول استثماره ويترتب عليه الدفع للجهة الأخرى.
إن الإفصاح عن تمويل التحكيم من الغير مستحسن لثلاثة أسباب أساسية
السبب الأول: يتعلق باستقلالية وحياد المحكم. يقتضي الإفصاح عن هوية الشخص الثالـث الممول لكي يتمكن المحكمون من تنفيذ موجب الإفصاح المفروض عليهم ولكي يتمكن الطـرف الآخر في التحكيم من التأكد من عدم وجود أية علاقة بين المحكّ م والشخص الثالث الممول مـن شأنها أن تثير الشكوك حول استقلال وحياد المحكم.
السبب الثاني: يتعلق بضرورة إعلام الطرف الآخر في التحكيم عن ملاءة الطرف الممـول والغير المموِل وحمايته من مخاطر عدم الملاءة.
السبب الثالث : يتعلق بضرورة تحديد الهوية الحقيقية للأطراف في التحكيم . بمعنـى آخـر، ينبغي التأكد من أن الغير الممول هو فعلاً خارج النزاع وأن الفريق الممول هو الطرف الحقيقي.إن هذه الأسباب قادت إلى اقتراح ادراج نصوص تلزم الإفصاح عن التمويل وإلى صـدور قرارات تحكيمية تلزم الفريق الممول الإفصاح عن التمويل.
من جهة، تم اقتراح نصوص تعزز الشفافية في الحالات التي تكون الاجـراءات التحكيميـة ممولة من الغير. إن المادة 24 من نظام التحكيم الاستثماري لمركز التحكيم الدولي في سـنغابور أعطى الحق للمحكمين بإلزام الأطراف الإفصاح عن تمويل الاجراءات التحكيمية من الغيـر .
نشير أيضاً إلى أن المبادئ التي وضعتها النقابة الدولية للمحامين (IBA)حول تضارب مـصالح المحكمين في التحكيم الدولي (Guidelines on Conflict of interest in International Arbitration)
لعام 2014 اعتبرت أنه يجب على الفرقاء الإفصاح عن أية علاقة تربط المحكّم بأي شخص يكون له مصلحة إقتصادية في القرار التحكيمي أو يكـون ملزمـاً بتعـويض أحـد الأطراف في التحكيم .
ن جهة أخرى، صدرت قرارات تحكيمية في مجال التحكيم الاستثماري ألزمت فيها الهيئة التحكيمية الفرقاء الإفصاح عن التمويل من الغير في قضية Muhammet cap ودولة Turkmenistan قررت الهيئة التحكيمية إلزام المستثمر الأجنبي الإفصاح عـن طبيعـ ة عقـد التمويل وما إذا كان الممول يحصل على نسبة مئوية من الربح في حـال الحكـم علـى دولـة Turkmenistan .وبررت الهيئة التحكيمية قرارها بجدية الأسباب التي أدلت بها هذه الدولة التي أبدت مخاوفها من عدم ملاءة الممول وبإفصاح الطرف الممول عن التمويل في اجراءات سابقة.
تجدر الإشارة إلى أن معظم عقود الت مويل تتضمن بنود عدم افشاء السرية. إنمـا لا يمكـن للفريق الممول أن يدلي بوجود هذه البنود للتملص من موجب الإفصاح . إن سرية المستند لا تمنع المحكّم من إلزام أحد الأطراف إبرازه عند توافر شرطي الضرورة والتناسب.
يستفاد مما تقدم أن التحكيم الدولي يتجه نحو تعزيزالشفافية التي لا يمكـن الاطاحـة بهـا لمجرد وجود بنود عدم الإفشاء في عقود التمويل.
الحالة الثانية: وجود إجراءات موازية (parallèles Procédures ) :
يدعو المجتمع التحكيمي الفرقاء للإفصاح عن وجود اجراءات موازية مرتبطة بـالإ جراءات 30 القائمة أمام الهيئة التحكيمية .
إن مسألة الاجراءات الموازية تطرح بشكلٍ ملحوظ في التحكيم الاستثماري لسببين أساسيين:
السبب الأول: هو تعدد اتفاقيات الاستثمار التي تعقدها الدولة المضيفة فتشكل كل اتفاقية سنداً قانونياً إضافياً لعرض النزاع نفسه أمام هيئة تحكيمية مختلفة.
السبب الثاني : هو الامكانية المعطاة لشركاء الشركة المستثمرة برفع القـضية الـى هيئـة تحكيمية مختلفة سنداً لإتفاقية استثمار أخرى وقّعتها الدولة المضيفة مع دولة الشريك.
وهذا ما حصل في قضية Gas Mediteranean East حيث تم رفع أربع قضايا أمام أربع هيئات تحكيمية مختلفة بشكل متزامن وتم مناقشةنفس الوقائع والمستندات وسماع نفس الـشهود والخبراء. ونشير إلى أنه تم رفع قضية من قبل أحد الشركاء في الشركة المستثمرة ضد الدولـة المصرية أمام هيئة تحكيمية وفق أنظمة الإكسيد واتفاق الاستثمار الموقّع بين الولايـات المتحـدة والجمهورية المصرية عام 1986 .في حين تم رفع قضية أخرى من قبل أحد فـروع الـشركة المستثمرة أمام هيئة تحكيمية أخرى تحكم وفق أنظمة ال يونسترال وعلى أساس اتفـاق اسـتثمار موقّع بين بولندا والجمهورية المصرية عام 1995 .
إن تعدد الاجراءات المتوازية يولّد المساوئ الآتية:
أولاً، يتم تكرار الاجراءات نفسها أمام هيئات تحكيمية مختلفة.
ثانياً، يولّد خطر تناقض بين القرارات التحكيمية الصادرة عن هيئات مختلفة.
ثالثاً، يولّد خطر الحكم على الدولة المستثمرة بتعويضات متعددة.
لهذه الأسباب، اقترح البعض تعزيز الشفافية في هذه الحالة تفادياً لهذه المخاطر عبر اعتماد 31 الحلول الآتية :
- إلزام الأطراف الإفصاح عن وجود هذه الاجراءات المتوازيـة وإزالـة الـسرية عـن الاجراءات تفادياً لهذه المخاطر.
- اعطاء المحكّم سلطة أمر الأطراف إبراز المستندات المستعملة في الاجراءات الأخرى.
- اعطاء المحكّم سلطة تعليق الاجراءات بانتظار صدور قرار هيئة تحكيمية أخرى.
- اعطاء المحكّم سلطة الحكم بعدم اختصاصه في حال وجود اجراءات أمام هيئة تحكيميـة أخرى.
- اعتبار أن المستثمر الذي رفع القضية أمام هيئة تحكيمية تنازل عن حقه في إقامتها أمـام هيئة تحكيمية أخرى.
إن هذه الحلول تهدف إلى تعزيز الشفافية وإلى الحد من مخـاطر الاجـراء ات الموازيـة. ونلاحظ أن هذه الحلول تدعو إلى فرض الشفافية على الأشخاص وإلى تعزيز شـفافية الأعمـال التحكيمية.
II .شفافية الأعمال:
إن شفافية الأعمال التحكيمية تشكل الوسيلة الفضلى لتعزيز شرعية التحكـيم كـأداة لفـض النزاعات الدولية .
إن هذا الهدف يفسر الاتجاه نحو زيادة الشفافية – بمعنى "الاتاحة -" تجاه الأطراف من جهة (أ) وتجاه الغير من جهةً أخرى (ب).
أ. تجاه الأطراف:
تجاه الأطراف، نلاحظ تعزيز الشفافية على مستوى:
12 -تكاليف التحكيم (1).
13 -اجراءات التحكيم (2).
14 -القرار التحكيمي (3).
I .شفافية تكاليف التحكيم:
في ما يتعلق بتكاليف التحكيم، يتجه المجتمع التحكيمي نحو تقوية الشفافية .
وذلك ثابت من خلال عمل مراكز التحكيم الدولية التي تسعى إلى تعزيز شـفافية تكـاليف التحكيم عن طريق اتخاذ التدابير الآتية:
أولاً، إن أنظمة مراكز التحكيم الدولية تعطي تعريفاً "لتكاليف التحكيم" "و لأتعاب المحكمين".
مثلاً، تنص المادة 35 من نظام مركز تحكيم سنغابور الدولي على أن"يـشمل تعبيـر "تكـاليف التحكيم" ما يأتي :
أ). أي أتعاب ونفقات لهيئة التحكيم وكذلك أتعاب ونفقات محكّ م التـدابير المـستعجلة، إن وجدت؛ .
ب). أتعاب والنفقات الادارية الخاصة بالمركز؛ و
ج) النفقات الخاصة بالخبير المعين من قبل هيئة التحكيم وغيرها من المساعدات ا للازمـة بصورة معقولة لهيئة التحكيم".
ثانياً، إن مراكز التحكيم تفصِل طريقة احتساب تكاليف التحكيم . إن هذه المنهجيـة تـسمح للفرقاء بتقدير التكاليف قبل المباشرة بالتحكيم. ولا بد لنا من ذكر المجهود الذي قامت به غرفـة التجارة الدولية في باريس التي كرست الملحق الثالث من نظامها لشرح طريقة احتساب تكـاليف التحكيم الذي تنظمه والتي نشرت آلة حاسبة على صفحتهاالإلكترونية تسمح للمستعملين تقـدير تكاليف التحكيم قبل تقديم أي طلب .
ثالثاً، إن أنظمة مراكز التحكيم تنظم طرق دفع تكاليف التحكيم . ويمكننا أن نذكر على سبيل المثال، المادة الأولى من الملحق الثالث من نظام الغرفة التجارية الدولية التي حددت نظام دفـع السلفة من قبل الأطراف والمادة 24 من نظام مركز لندن للتحكيم الدولي الذي يـنظم ايـداعات الفرقاء.
2 .شفافية اجراءات التحكيم:
إن اجراءات التحكيم تتميز بشفافية مطلقة تجاه الفرقاء.
إن هذا الحل منطقي لأن الشفافية تشكل ضمانةللوجاهية ولحق الدفاع المقدس . وبالتـالي، فإن عدم شفافية الاجراءات يؤدي الى بطلان القرار التحكيمي لمخالفة هذا القرار مبدأ الوجاهيـة وحق الدفاع.
من جهة، إن الشفافية مفروضة على الفرقاء الذين عليهمتقديم بيانات أو وثائق أو معلومات 35 أخرى إلى هيئة التحكيم وإرسالها إلى الطرف الآخر في الوقت نفسه .
من جهة أخرى، إن الشفافية مفروضة على المحكّ مين. وفي هـذا الـسياق، يجـدر ابـداء الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: لا يحق للمحكّم التواصل مع أحد الأطراف دون إعلام الآخر . فلا يحـق للمحكّم سماع أحد الأطراف بغياب الطرف الآخر . كما لا يحق للمحكّم الاتصال بأحد الأطـراف على حدة وإن كان هذا الطرف هو الذي عينه.
الملاحظة الثانية : على المحكّم السماح للفرقاء الإطلاع على جميع المستندات والتقارير التي يستند عليها لإصدار القرار التحكيمي. كما يجب عليه أن يرسـل للأطـراف تقـارير الخبـراء والأشخاص الثالثين الذين دعاهم المحكم لإبداء الرأي .
الملاحظة الثالثة : على المحكّم الذي يثير مسألة من تلقاء نفسه أي عفواً أن يعرضها على الفرقاء ولا يحق له أن يستند في القرار التحكيمي على مسألة لم يتم عرضها على الفرقاء.
يستفاد من هذه الحلول أن الشفافية مفروضة على جميع المـشاركين فـي التحكـيم خـلال الاجراءات التحكيمية.
ويطرح السؤال ما إذا كانت الشفافية مفروضة في المرحلة اللاحقة للإجراءات.
3 .شفافية القرار التحكيمي:
إن مسألة شفافية القرار التحكيمي تطرح على مستويين: مستوى إعداد القـرار التحكيمـي ومستوى تعليل القرار التحكيمي.
• الشفافية على مستوى إعداد القرار التحكيمي:
إن الكلام على شفافية إعداد القرار التحكيمي قد يظهرتناقضاً لأن إعداد القرار التحكيمـي يحكمه مبدأ سرية المداولات المكرس في معظم القوانين الوطنية وأنظمة مراكز التحكيم.
وهذا ثابت من خلال الحلول الآتية:
أولاً، إن القوانين الوطنية وأنظمة مراكز التحكيم الدولي باتت تفرض على المحكّ م موجـب تعليل لا يمكن الخروج عنه إلا بموافقة الفرقاء . من أبرز الأمثلة على هذه النـصوص، المـادة 4.56 من القانون الانكليزي للتحكيم لعام 1996م التي نص على انه يجـب أن يكـون القـرار التحكيمي معللاً ما لم يقم الأطراف بإعفاء المحكم صراحةً من هكذا تعليل، المادتان 2.31 و3.32 من قانون اليونسترال النموذجي اللتان فرضتا على المحكم تعليل القرار التحكيمي، والمادة 31 من القانون القطري للتحكيم والمادة 41 من القانون الاماراتي الجديد والمادة 32 من نظام الغرفـة التجارية الدولية التي تنص على أن القرار التحكيمي يذكر الأسباب التي استند عليهـا المحكـم . وتجدر الاشارة إلى أن محكمة استئناف باريس قضت بأن موجب التعليل مفروض بموجب قرينة في حال انتفاء نص صريح .
ثانياً، إن المحاكم لم تعد تكتفي بوجود تعليل في القرار التحكيمي، بـل باتـت تفـرض أن يتضمن القرار التحكيمي تعليلاً ملائماً وخالياً من التناقضات . عملياً، يجب أن يكـون التعليـل واضحاً ومفهوماً وأن يكون قد ارتكز على النقاط المثارة من قبل الفرقاء .
ثالثاً، إن المحاكم تتشدد بمعاقبة مخالفة موجب التعليل. من جهة، إن عدم التعليل يؤدي إلـى بطلان القرار التحكيمي لعدم تقيد المحكّم بالاجراءات التي اتفـق الفرقـاء عليهـا فـي العقـد التحكيمي أو المنصوص عليها في القانون المطبق على اجراءات التحكـيم أو المنـصوص عليها في نظام مركز التحكيم الدولي. من جهة أخرى، أبطلـت المحـاكم الفرنـسية القـرار التحكيمي لعلة عدم التعليل لأنه أدى إلى مخالفة مبدأ الوجاهية وحق الدفاع .
يستفاد مما تم عرضه أن الشفافية تشكل التزاماً على المحكّمين تجاه الأطراف. ويبقى معرفة ما إذا كانت الشفافية مفروضة على المشاركين في التحكيم تجاه الغير.
ب- تجاه الغير:
تجاه الغير، إن الشفافية في التحكيم الدولي تعني الحق في الإطلاع على الأعمال التحكيميـة وتفترض الإدلاء بالمعلومات عن كافة إجراءات التحكيم وإتاحتها لكل ذي شأن. .
إن مسألة شفافية الأعمال التحكيمية تجاه الغير تدعو للتفريق بين التحكيم الإسـتثماري (1) والتحكيم الدولي (2 ).
2 - التحكيم الاستثماري:
إن التحكيم الاستثماري هو إجراء لتسوية النزاعات بـين المـستثمرين الأجانـب والـدول المضيفة.
في ما يتعلق بالتحكيم الاستثماري، إن الشفافية هي الأصل أي المبدأ.
إن مبدأ شفافية التحكيم الاستثماري يستوجب إعطاء ايضاحات حول النقاط الآتية:
النقطة الأولى: تكريس هذا المبدأ.
النقطة الثانية: تبريرات هذا المبدأ.
النقطة الثالثة: عناصر هذا المبدأ.
النقطة الرابعة: الاستثناءات لهذا المبدأ.
النقطة الأولى : تكريس مبدأ الشفافية:
إن مبدأ شفافية التحكيم الإستثماري مكرس في عدة نصوص ولا سيما في النصوص الآتية:
أولاً، إن هذا المبدأ مكرس في قواعد اليونسترال بشأن الشفافية في التحكيــم التعاهـدي بـين المسـتثمرين والدول لعام 2013 .تجدر الإشارة إلى أن هذه القواعـد تطبـق علـى التحكـيم بـين المستثمرين والدول الذي يستهل بمقتضى قواعد ال يونسترال للتحكيم عملاً بمعاهدة حماية الاستثمارات أو المستثمرين مبرمة بعد 1 نيسان 2014 أو في الحالة التي يتفق فيها الفرقاء على تطبيقها.
ثانياً، إن هذا المبدأ مكرس في أكثر من خمسين معاهدة مبرمة بعد 1 نيسان 2014 تـنص على تطبيق قواعد اليونسترال بشأن الشفافية أو أحكام مصاغة على غرار قواعد اليونسترال بشأن الشفافية .
ثالثاً، إن هذا المبدأ مكرس في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الشفافية في التحكـيم التعاهـدي بـين المستثمرين والدول المعتمدة بتاريخ 10 كانون الأول 2014 والنافذة ابتداء من 18 أكتـوبر 2017 .
إن هذه الاتفاقية وسعت نطاق تطبيق قواعد اليونسترال بشأن الشفافية بحيث يـصار إلـى تطبيـق هـذه القواعد على أي تحكيم استثماري بين دولة وقّعت على هذه الاتفاقية ومستثمر من دولة أخرى وقّعـت عليها أو بين دولة وقّعت على هذه الاتفاقية وبين أي مستثمر أجنبي وافق على تطبيق هذه القواعد.
النقطة الثانية: تبريرات مبدأ الشفافية:
ثلاثة أسباب تبرر هذا المبدأ في التحكيم الإستثماري:
السبب الأول: هو انطواء التحكيم الاستثماري على مواضيعتهم الرأي العام: مثل المواضيع المتعلقة بالطاقة والبيئة والصحة العامة. فغالباً ما يكون الاستثمار موضوع النزاعيهـدف إلـى إحقاق المصلحة العامة في الدولة المضيفة. إضافة إلى ذلك، إن هذا النزاع يهم رعايـا الدولـة المضيفة لأنها ملزمة بتنفيذ القرار التحكيمي على المال العام.
السبب الثاني : هو حماية المستثمر الأجنبي من الضغوطات السياسية في حال نشوب النزاع. إن الشفافية تؤدي إلى تشجيع المستثمرين على است ثمار أموالهم مع اليقين أنهم لن يظلموا في ظل قضاء التحكيم الاستثماري العادل والشفاف .
السبب الثالـث : هو تعزيز التحكيم كأداة لحل النزاعات بين المستثمرين الأجانـب والـدول المضيفة.
النقطة الثالثة: عناصر مبدأ الشفافية إن مبدأ الشفافية يتكون من عنصرين:
العنصر الأول: هو العلنية. إن التحكيم الاستثماري هو تحكيم علني.
إن هذه العلنية تستتبع:
- نشر إجراءات التحكيم:
وفقاً للمادة الثانية من قواعد اليونسترال يلتزم أطراف النزاع فور تسلم المدعى عليه إشعار التحكيم بإرساله إلى جهة إيداع المعلومات التي تتيح لعامة الناس الإطلاع على المعلومات المتعلقة بأسماء الطرفين المتنازعين والقطاع الذي يرتبط به النزاع والمعاهدة التي ينظر بموجبهـا فـي الدعوى.
- نشر الوثائق:
وفقاً للمادة الثالثة من قواعد الشفافية تتم إتاحة الاطلاع على الوثائق الآ تية لعامـة النـاس:
إشعار التحكيم والرد على الإشعار وبيان الدعوى وبيان الدفاع وأية بيانات كتابيـة أو مـذكرات مقدمة من أي طرف، وجدول بجميع الأحراز وتقارير الخبراء وبيانات الشهود ومحاضر جلسات الاستماع، والأوامر والأحكام والقرارات الصادرة من هيئة التحكيم، كمـا يتـاح لعامـة النـاس الإطلاع على تلك الوثائق على أن يتحمل كل شخص التكاليف الإدارية للإطلاع أو الحصول على نسخ من الوثائق.
- علنية جلسات الاستماع: وفقاً للمادة السادسة من قواعد الشفافية تكون جلسات الاستماع الخاصـة بتقـديم الأدلـة أو المرافعات الشفوية علنية. ويعود لهيئة التحكيم، في سبيل تيسير علنية الجلسات، أن تبثها لعامـة الناس عبر وصلات فيديو.
- نشر الأحكام: إن الأحكام الصادرة في التحكيم الاستثماري منشورة إلا في حالة رفض أحـد الأطـراف . وأكدت المادة الثالثة من قواعد الشفافية على إتاحة الاطلاع على الأوامر والأحكـام والقـرارات الصادرة عن هيئة التحكيم للناس سواء بالإطلاع ع ليها مباشرةً أو بالحصول على نسخ منها مقابل مصاريف إدارية.
العنصر الثاني: هو السماح للغير المشاركة بالإجراءات:
وفقاً للمادة الرابعة من قواعد الشفافية يجوز لهيئة التحكيم، بعد أخذ رأي الطرفين، أن تسمح لشخص ثالث ليس طرفاً في النزاع وليس طرفاً في المعاهدة بأن يقدم مذكرة كتابيـة بخـصوص 51 مسألة تندرج ضمن المنازعة .
وتجدر الاشارة إلى أن مداخلة الشخص الثالث في هذه الحالة تتم بناء على طلب هذا الأخير ويحق له تقديم مذكرة من تلقاء نفسه.
نلاحظ أن الشفافية أضعفت خصوصية التحكيم الذي لم يعد يقتصر على الأطراف .
النقطة الرابعة: الاستثناءات لمبدأ الشفافية: إذا كانت القاعدة العامة في التحكيم الاستثماري هو الشفافية إلا أنها ليست قاعدة مطلقة. وهذا ما أقرته قواعد الشفافية حيث أوردت الاستثناءات الآتية:
أولاً، لا يجوز إتاحة الاطلاع على المعلومات السرية أو المحمية لعامة الناس: ويقصد بالمعلومات السرية أو المحمية ما يأتي :
1 -المعلومات التجارية السرية.
2 -المعلومات المحمية من إطـلاع عامـة النـاس عليهـا بموجـب معاهـدة ثنائيـة أو متعددة.
3 -المعلومات المحمية من إطلاع عامة الناس عليها بموجب قانون الدولة المدعى عليهـا فيما يخص معلومات تلك الدولة وبمقتضى أية قوانين أو قواعد ترى هيئة التحكيم أنهـا تنطبق على كشف المعلومات.
4 -المعلومات التي من شأن الكشف عنها عرقلة إنفاذ القوانين.
وتتمتع هيئة التحكيم بسلطة تقديرية بعد التشاور مع أطراف النزاع فيما يعد معلومات سرية أو محمية، فإذا أقرت ذلك اتخذت ترتيبات لمنع إطّلاع عامة الناس عليها ولها تحديـد جلـسات استماع مغلقة، وإذا رأت الهيئة عدم ضرورة حجب معلومات واردة في وثيقة قدمها أي طـرف طواعية في سجل إجراءات التحكيم، تسمح القواعد لهذا الطرف بسحب الوثيقة برمتها أو جـزء منها.
ثانياً، يجوز للدولة الطرف في التحكيم أن تطلب عدم إتاحة الاطلاع على معلومات لعامـة الناسإذا رأت في ذلكضرراً بمصالحها الأمنية والسياسية، كأن تتعلـق المعلومـات بـالأمن الاجتماعي والقومي. وتتمتع هيئة التحكيم بسلطة تقديرية في المعلومات التي يعد كـشفها ضـاراً بالمصالح الأمنية للدولة.
ثالثاً، لا يجوز إتاحة الاطلاع على معلومات لعامة الناس متى كان مـن شـأنها المـساس بسلامة التحكيم . وتتمتع هيئة التحكيم بسلطة تقديرية فيما يعد ماساً بسلامة التحكيم من عدمه، كما يجوز للهيئة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد أطراف النزاع وبعد التشاور مع طرفي النزاع اتخاذ التدابير الملائمة من أجل تقييد أو تأخير نشر المعلومات متى كان من شأن النشر المـساس بسلامة التحكيم، إما لأنه يعيق جمع الأدلة أو تقديمها أو ترهيب الشهود أو المحامين الذين يمثّ لون أطراف النزاع أو هيئة التحكيم أو في ظروف استثنائية مماثلة.
2 .التحكيم التجاري: في ما يتعلق بالتحكيم التجاري، إن الشفافية هي الاستثناء.
إذا كانت العلنية ومشاركة الغير في الاجراءات تشكلان ركيزتـي التحكـيم الاسـتثماري، فالسرية والخصوصية تشكّلان ركيزتي التحكيم التجاري.
ولكن، نلاحظ أن الشفافية ليست غائبة عن التحكيم التجاري.
أولاً، نلاحظ تراجع السرية كمبدأ عام في التحكيم التجاري : من جهة، إن النصوص الجديدة المتعلقة بالتحكيم التجاري الدولي لم تعد تشير صراحة إلى موجب الالتزام بالسرية. مـن أبـرز الأمثلة على هذه النصوص: قانون التحكيم الاماراتي الجديد، قانون التحكيم القطري الجديد، قانون التحكيم البحريني الجديد، والقانون النموذجي لليونسيترال وقواعد غرفة التجارة الدولية. أن السرية لا تشكل 54 والسويدي 53 والأسترالي 52 من جهة أخرى، اعتبر الاجتهاد الأميركي شرطاً ضمنياً في الاتفاق التحكيمي بل يجب أن يكون متفقاً عليها صراحةً من قِبل الفرقاء.
ثانياً، إن حماية المصلحة العامة تبرر الخروج على مبدأ سرية الشفافية. وهذا ما قـضته . في هذه القضية، نشأت الاجراءات عن 55 المحكمة العليا الاسترالية في قضية Australia Esso تحكيمين متوازيين في استراليا بين شركةEsso ومرفقين عامين بشأن تنفيذ عقدي توريد غـاز طبيعي من حقل نفط في مضيق باس . خلال السير في الاجراءات، أعرب وزير الطاقة والمعادن عن نيته الكشف عن كل المعلومات التي أفصحت عنها شركةEsso .اعتبرت المحكمـة العليـا الأسترالية "أن السرية ليست جزءاً من الطبيعة الملازمة لعقد التحكـيم وللعلاقـة التـي تنـشأ بموجبه". وأضافت أنه حتى لو كان يوجد التزام بموجب العقد بين الأطراف، فهذا الموجب ليس مطلقاً وإن "أي التزام بالسرية هو عرضة لإستثناء واضح يصب في المصلحة العامة".
ثالثاً، نلاحظ تعدد النصوص الخاصة التي تفرض الشفافية . ومن أبرز الأمثلة علـى هـذه النصوص الخاصة، المادة 5-251 من نظام هيئة الأسواق المالية الفرنسية التي تلزم الـشركات المقيد لها أوراق مالية في البورصةالافصاح عن وجود اجراءات التحكيمية. إن هـذا الموجـب يهدف إلى حماية المستثمرين والأسواق المالية.
رابعاً، نلاحظ أن مراكز التحكيم الدولي بدأت تأخذ مبادرات من أجل تعزيز شفافية الأعمال التحكيمية. وفي هذا الإطار، لا بد من ذكر المجهود ال ذي تقوم به التجارة الدولية التي بدأت تنشر أسماء المحكّمين وأرقام وتواريخ القضايا التي تم تعيينهم فيها منـذ العـام2016 وذلـك تفاديـاً لتضارب المصالح.
إن مظاهر الشفافية في التحكيم التجاريومبدأ الشفافية في التحكيم الاستثماري قادا الـبعض 56 إلى الدعوة إلى تعزيز الشفافية في كل مجالات التحكيم الدولي وذلك لعدة أسباب أهمها:
- تعزيز شرعية التحكيم كأداة لحل النزاعات الدولية.
- تعزيز نوعية التحكيم من خلال نشر الاجراءات والقرارات التحكيمية التي تعزز الرقابـة على أعمال التحكيم.
- تعزيز تناسق الحلول التحكيمية بعضها مع بعض من خـلال الاسـتناد إلـى القـرارت التحكيمية السابقة.
- عدم تعارض الشفافية مع طبيعة التحكيم التجاري. 57 إنما هذا الرأي لم يلقَ الترحيب الواسع لدى خبراء التحكيم التجاري . 58 وتمت الإشارة إلى :
- ضرورة التفريق بين التحكيم الاستثماري الذي يتعلق ب مصالح عامة والتحكـيم التجـاري الذي يتعلق بمصالح خاصة - حاجة الأطراف إلى السرية في التحكيم التجاري.
- عدم المنفعة من النشر التلقائي للقرارات التحكيمية إذ أنه لا يمكن مقارنة القرارات التحكيمية باجتهادات المحاكم الوطنية الخاضعة لمبدأ تسلسل المحاكم ولرقابة محاكم التمييز.
الخاتمة: في الختام، يمكن ابداء ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: إن التحكيم الدولي يتجه نحو تعزيز شفافية الأشخاص من خـلال إلـزام المحكّم والمحتكمين الإفصاح عن ظروف من شأنها أن تؤثّ ر على الاجراءات التحكيميـة وإلـى تعزيز شفافية الأعمال التحكيمية من خلال إتاحة الاطّلاع على هذه الأعمال.
الملاحظة الثانيـة : إن شفافية الأعمال التحكيمية تشكّل الأصل فـي التحكـيم الاسـتثماري والاستثناء في التحكيم التجاري.
الملاحظة الثالثة: إن تعزيز الشفافية يؤدي إلى إضعاف خصوصية وسرية التحكيم.
إن تعزيز الشفافية انما هو تعزيز لدور القاعدة الأخلاقية في مادة التحكيم.
لا يمكن فصل الأخلاق عن العدالة التحكيمية والقول بعكس ذلك يجعل مـن هـذه العدالـة مجموعة من التقنيات والآليات التي تفتقر إلى الروح!