الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم بين الدول / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد18 / بعض التحديات التي تواجه التحكيم في ليبيا التحكيم في ليبيا بين تركة الماضي وآفاق المستقبل)

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد18
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    101

التفاصيل طباعة نسخ

 

    ليبيا كأي دولة حديثة تعتبر القضاء هو الأصل في فصل المنازعات والجرائم (المادة 14 من قانون نظام القضاء) ولكنها في الوقت نفسه تعترف لوسائل فض المنازعات الأخرى بدورها، غير ان التوافق يقف عند هذا الحد. ذلك لأنه وان كانت البداية التي جسدتها تقنيات المملكة (1953- 1969) واعدة في ما يتعلق بدور الوسائل البديلة في حل المنازعات، الا ان الإنقلاب العسكري الذي حصل في 1961/9/1 وما ترتب عليه من نتائج طالت مختلف نواحي الحياة، افرز سياسة معادية للتحكيم من حيث المبدأ. غير ان التحديات التي تواجه التحكيم في ليبيا لا تقف عند هذا الحد. اذ فضلاً عن التحديات التي تعود في مصدرها الى السلطة، توجد تحديات تتعلق بالواقع. وهذه التحديات وتلك يمكن نسبتها الى تركة الماضي (فقرة اولى) ومع ذلك فإن سنة الحياة لا بد ان تملي على السلطة الجديدة المنبثقة من ثورة 17 فبراير، سياسة مختلفة تدعم التحكيم وتذلل ما يواجهه من تحديات (فقرة ثانية في آفاق المستقبل).

 

الفقرة الأولى: تركة الماضي:

   صورة التحكيم في ليبيا بدأت مقبولة على الصعيد التشريعي الى عام 1969، حيث عالج المشرع التحكيم في مدونة قانون المرافعات في الباب الرابع من الكتاب الثالث المعنون (في اجراءات وخصومات معينة) في المواد (739 الى 777) والمادة 739 جستت ارادة المشرع في اجازة التحكيم لفض اي نزاع مع مراعاة القيد الوارد في المادة 740 النظام العام. وتأكدت هذه الإرادة في قانون البترول لعام 1955 الذي جعل التحكيم هو الطريق الوحيد للفصل في منازعات البترول.

 

    والطابع الإجباري له، الواضح في العلاقات النفطية، يعكس قانون القوة الذي يصب في صالح الشركات والذي استمر في ظل العقود الجديدة التي حلت محل عقد الإمتياز والذي كان الصيغة الوحيدة في ظل قانون سنة 1955 في صياغته الأصلية. وبنجاح الإنقلاب العسكري عام 1969 بدأت الرياح تهب في غير صالح التحكيم. وتجسد ذلك في سياسة تشريعية متقلبة (اولا) وقضاء قد لا يكون مؤهلا للتعامل مع اشكاليات التحكيم ومقتضياته (ثانياً) وبيئة غير مواتية (ثالثاً).

 

اولا- تذبذب السياسة التشريعية:

    تجسد هذا التذبذب في مجالين اساسيين: الأول هو مجال العقود العامة، اما الثاني فيتعلق بالتوفيق والتحكيم بين المواطنين، وهذان المظهران يعكسان في حقيقة الأمر منطق القذافي في الفترة 1969-2011. 

 

أ- التحكيم في العقود العامة:

   1- مصطلح العقود العامة هنا نستعمله للدلالة على عقود الأشغال العامة وعقود الاستثمار. 

     2- التحكيم في منازعات العقود الإدارية.

عبر المشرع عن سياسة الشك في التحكيم ابتداء من عام 1970 حيث اصدر القانون رقم 76 لسنة 1970 والذي حظر بموجبه اختيار التحكيم او قضاء اجنبي في شأن العقود العامة (مادة 7)؟! ولم يدم هذا الموقف طويلاً، اذ جاء القانون رقم (1) 1971 بإجازة الخروج على ولاية القضاء الليبي بقرار من مجلس الوزراء ليقوم المشرع بإلغائه بالقانون رقم 149 لسنة 1972 واستمرت سياسة التحفظ هذه مع صدور لائحة العقود الإدارية لعام 1980 التي قبلت التحكيم استثناء (مادة 99) ثم توالت اللوائح المنظمة لهذه العقود في تقرير نفس الحكم: الأصل هو اختصاص القضاء الليبي مع الترخيص بإختيار نظام التحكيم في احوال التعاقد مع جهات اجنبية ما دام ذلك ضرورياً وبموافقة اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء) وبشرط وضع مشارطة تحكيم خاصة تبين أوجه النزاع محل التحكيم واجراءات وقواعد اختيار المحكمين (مع استبعاد المحكم الفرد) وهذه القيود تهدف الى كفالة المساواة بين الأطراف.

    وفي العقد الأول من القرن الجاري شهدت العلاقة بالتحكيم في ليبيا صدور اللائحة النافذة، والتي حافظت على النهج السابق: جواز الإتفاق في العقود الإدارية المبرمة مع جهات اجنبية على التحكيم بموافقة مجلس الوزراء على ان يكون بهيئة ثلاثية وتحديد محل التحكيم. 

    بواسطة ثلاثة محكمين، يعين كل طرف محكماً وتعين غرفة التجارة الدولية المحكم الثالث الذي يجب الا يكون له آية صلة بأي من الطرفين، ويكون هذا المحكم رئيساً لهيئة التحكيم. 

    ويستفاد من ذلك ان التحكيم لا محل له في العلاقة التي يكون احد اطراف العقد الإداري فيها شخصاً يحمل الجنسية الليبية. وهو حكم يجافي المنطق الصحيح ومبدأ المساواة امام القانون وقد يكون تفسيره في رغبة المشرع في تحسين وجه ليبيا في نظر الخارج مع استمرار عنصر الشك وعدم الثقة في مؤسسة التحكيم ولا سيما بعد صدور عدة أحكام تحكيمية في الخارج ضد ليبيا".

   ومما يؤكد تقلب السياسة التشريعية الليبية تجاه التحكيم صدور القانون رقم (3) لسنة 2007 الذي اجاز التحكيم في المنازعات التي تتعلق بشركات القطاع موضوع القانون نصت المادة السادسة منه على انه: (يجوز الإتفاق في المنازعات التي تقطع بين الشركات الخاضعة أو الأفراد. وتطبق في هذا الشأن التشريعات الوطنية ذات العلاقات) ولا مشكلة في اشتراط تطبيق التشريعات الوطنية، الا في الحالة التي يكون فيها احد اطراف النزاع شخصاً لا يحمل الجنسية الليبية.

 

 ب- التحكيم في منازعات الإستثمار.

 

1- الإستثمار في غير المناطق الحرة:

   لا يوجد تعريف تشريعي لمنازعات الإستثمار في ليبيا، ويمكن القول انها الخلافات التي تنشأ بين الدولة المضيفة والمستثمرين بسبب الإستثمار او بمناسبته والمفروض ان يتمتع المستثمر الوطني بما يتمتع به المستثمر الأجنبي من ضمانات وحوافز، ومع ذلك فإن القانون رقم (9) لسنة 2010 بشأن تشجيع الإستثمار يلتزم قاعدة العدل فيما يتعلق بآلية التحكيم فالمادة 24 صريحة بنصها على: (يعرض اي نزاع ينشأ بين المستثمر الأجنبي والدولة، اما بفعل المستثمر أو نتيجة لإجراءات اتخذتها ضده الدولة على المحاكم المختصة في الدولة، الا اذا كانت هناك اتفاقية ثنائية بين الدولة والدولة التي ينتمي اليها المستثمر، او اتفاقيات متعددة الأطراف تكون الدولة والدولة التي ينتمي اليها المستثمر طرفين فيها تتضمن نصوصاً متعلقة بالصلح او التحكيم او اتفاق خاص بين المستثمر والدولة ينص على شرط التحكيم) وبالتالي فإن منازعات الإستثمار التي يكون المستثمر فيها وطنيا تخضع لإختصاص القضاء الليبي ولا محل فيها للإتفاق على التحكيم لوجود النص الخاص سالف الذكر!

 

2- الإستثمار في المناطق الحرة.

 

ثانياً - القضاء الليبي ومتطلبات التحكيم:

   كما هو معلوم أن دور القضاء في علاقته بالتحكيم لا يقف عند تقديم يد العون للتحكيم في تشكيل الهيئة (م 746 مرافعات) او عزل المحكم الذي يرفض التنحي رغم وجود ارادة من احد الخصوم بذلك او لتوافر سبب من أسباب الرد (مادة 749) او مد أجل التحكيم (م 752) او بالفصل في المسائل الأولية (757) او اتخاذ الإجراءات الوقتية (م 758) او معاقبة الشاهد (م 759) وانما اعطى له المشرع في ليبيا دور المراقب سواء فيما يتعلق بالفصل في الطعون او في دعوى البطلان (مواد 769 - 771) وكذلك في مرحلة طلب التنفيذ حيث لا تنفيذ إلا بمقتضي أمر بالتنفيذ (يطلب امر تنفيذ الحكم التحكيمي الصادر في ليبيا بأمر على عريضة (مادة 763)، اما الحكم التحكيمي الأجنبي فبناء على دعوى ترفع إلى المحكمة الإبتدائية التي يجري التنفيذ في دائرتها (مادة 406 مرافعات).

   فهل يملك قضاؤنا الأهلية والخبرة اللازمتين لمواجهة مثل تلك الأعباء؟ بصرف النظر عن الأفكار المطروحة الآن في ظل المرحلة الإنتقالية التي تمر بها ليبيا من الحاجة الى اصلاح المؤسسة القضائية، فإن من المؤكد أن قضاءنا في حاجة ماسة الى اعادة تأهيل ورسكلة للتعامل مع الإشكاليات القانونية التي تطرح خاصة بمناسبة الدور الرقابي الممنوح له بمقتضى قواعد التحكيم المشار اليها وللتدليل على صحة ذلك الزعم.

يمكنني الإستئناس ببعض القضايا التي عرضت على القضاء الليبي في العقود الخمسة الماضية:

1- في قضية نوفوکاسترو" التي عرضت على المحكمة العليا سنة 1970 بمناسبة قيام الوزارات في ليبيا بفسخ عقد اداري مبرم مع شركة نوفوکاسترو والتي لجأت إلى التحكيم استناداً الى شرط تحكيم ورد في العقد، وهو المسلك الذي لم يرق لإدارة قضايا الحكومة بأن العقد مصدر الشرط التحكيمي قد فسخ، وبفسخه زال الشرط. نعم المحكمة العليا ردت هذا التحليل بقولها: (وحيث انه وان كانت الوزارة قد لجأت الى فسخ العقد استناداً إلى المادة 9 منه، وهذا حقها الذي لا يطعن عليه اذا قدرت أن هذا يقتضيه الصالح العام، الا أن القضاء بولايته العامة أو التحكيم بولايته الخاصة منوط به مراقبة أسباب الفسخ حتى يوازن بين سلطة الإدارة الخطيرة في انهاء العقد وبين حق المتعاقد في الحصول على التعويضات ان كان لها وجه). 

غير أن من الجائز التساؤل عن مدى مناسبة توقف المحكمة عند فرضية الفسخ، والتي هي الأكثر وضوحاً بالنظر إلى أن العقد نشأ صحيحاً، واغفال فرضية بطلان العقد الأصلي المحتوي على شرط تحكيم صحيح؟ كان في مقدور المحكمة وضع مبدأ يواجه اشكالية استقلال الشرط التحكيمي عن العقد المتضمن لذلك الشرط، وهي الإشكالية التي لم يعالجها المشرع الليبي .

2- في شأن قاعدة الوترية في تكوين هيئة التحكيم اكتفت المحكمة العليا في ليبيا بواقع الشرط التحكيمي الذي نص على تشكيلها بعدد زوجي، وبالتالي أبطلت الحكم نزولاً عند حكم المادة 744 مرافعات التي توجب في حالة تعدد المحكمين أن يكون عددهم وتراً في جميع الأحوال. اذ ان الثابت من الوقائع ان الحكم صدر بعدد فردي لإعتذار احد المحكمين منذ البداية. فبالتمعن في المسألة، يمكن القول أن ابطال الحكم هنا لا يستجيب لمنطق البطلان، كما نظمه المشرع في القواعد العامة (مادة 21 عيب جوهري شاب الإجراء نشأ عنه ضرر للخصم). أليس من حق الطرفين تعديل الإتفاق لكي يصبح التشكيل وترياً؟ وهذا الإتفاق كما يكون صريحاً يمكن أن يكون ضمنياً يشهد على ذلك موقف الأطراف الذين حضروا اجراءات التحكيم دون التمسك بالبطلان، فذلك يدل على رضائهم بأن تسير عملية التحكيم بهذا الشكل المعدل الإعتذار المحكم السادس من البداية. وهكذا كان على المحكمة العليا ان لا تؤيد حكم محكمة الإستئناف الذي قضى ببطلان حكم التحكيم لمجرد أن المشارطة نصت على تشكيل زوجي وحكم المادة 744 مرافعات لا يقف عقبة دون ذلك، لأن تقدير الجزاء متروك للقضاء وهي في قمته، كما أن نتائج البطلان قاسية: فالنزاع منذ أن وصل إلى القضاء اخذ تسع سنوات تقريبا من (1994 الى 2004) اضافة الى مدة خصومة التحكيم! هذه المدة والجهد الذي بذله المتنازعون وما ساورهم من قلق، كل ذلك ذهب بدون ادنی فائدة. ناهيك عن تكرار الخصومة من جديد وما يرتبه من سلبيات كان اختيار التحكيم أصلا لتفاديها! 

3- في شأن تنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية التي تطرح على اكثر من اشكالية، وعلى الأخص ما يتعلق بالنظام العام (مادة 407 مرافعات) ومن غير المؤكد أن تتوافر لدى قضاة الموضوع التجربة الكافية للتعامل معها مما يجعل الذهاب الى المحكمة العليا شبه حتمي

ثالثاً- مدى اعتبار البيئة مواتية للتحكيم؟

   على الرغم من أن الشعب الليبي هو شعب مسلم، فإن الواقع الحالي لا يعكس تجاوباً كاملاً لآلية التحكيم التي يفترض انها الأقرب إلى تحقيق عدالة اسرع واقل تكلفه ومناسبة لحاجات المتعاملين ولعل من بين العوامل التي ساهمت في تكريس هذا المناخ غير المناسب للتحكيم الدولي على وجه الخصوص:

 أ- الشك في مؤسسة التحكيم بالمقارنة بالقضاء الذي ينظر اليه على انه موطن الضمانات

بإعتباره احدى سلطات الدولة، في حين أن التحكيم هو عمل شخص او اشخاص لا يمثلون الدولة بأية حال، فالمحكم يستمد ولايته من ارادة الفرقاء الذين اختاروه او فوضوا جهة او شخصاً في اختياره. 

ب- الإخفاقات التي عرفتها ليبيا في الثلث الأخير من القرن المنصرم في القضايا التي رفعت بمناسبة التأميمات التي جرت في مجال الموارد النفطية. 

ج- السياسة التي اعتاد النظام السابق على اتباعها في مناهضة التحكيم ومن تجلياتها غير ما سبقت الإشارة اليه في البند (اولاً) عدم انضمام ليبيا إلى اتفاقية نيويورك لعام 1956 بشأن الإعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية، وكذلك الشأن بالنسبة لإتفاقية واشنطن السنة 1965.

د- ضعف ثقافة التحكيم في ليبيا ليس فقط بالنسبة للمواطن العادي، وانما ايضا بالنسبة للفئات المرتبطة بالقانون، حيث خلت المناهج التقليدية من تخصيص مقرر للتحكيم في كليات الحقوق.

الفقرة الثانية: سبل مواجهة تحديات التحكيم:

 (او آفاق المستقبل):

    بعد التخلص من النظام السابق الذي افسد مختلف مناحي الحياة في ليبيا بما في ذلك القضاء وتعتبر الشعارات المرفوعة من ثورة 17 فبراير خاصة ما تعلق منها بالحرية والعدالة ودولة القانون لمؤشر على ان رياح التغيير ستطال التحكيم ايضاً. ذلك لأن السياسة الإقتصادية في ليبيا الجديدة ستكون ليبرالية بشكل كبير، وان عدم الإستقرار والغموض اللذين طبعا الحياة العامة في ليبيا طيلة العقود الأربعة الماضية ستحل محلهما الشفافية والمصداقية بإعتبارهما من مرتكزات النظام الديمقراطي المنشود، ولهذا فإن التحديات التي سبقت الإشارة اليها بإيجاز هي من قبيل التحديات المقدور عليها، اذا توافرت الإرادة اللازمة.

   هذه الإرادة لا بد أن تتجلى في استقبال الوسائل البديلة بشكل عام، والتحكيم بشكل خاص، ليس فقط على صعيد التصريحات والمواقف السياسية لغرض تهيئة البيئة الإستعمال هذه الوسائل وازالة العقبات او العوائق التي تعترضها او تحد من فعاليتها، وانما وهو الأهم بإصلاح المنظومة التشريعية عموماً وقواعد التحكيم والتوفيق والصلح على وجه الخصوص، غير أن العبء في عملية تأهيل التحكيم لا يقع على عاتق السلطة وحدها - اولاً، بل يتحمل القانونيون جانبا منه - ثانياً، ويفترض أن يساهم الإتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزارعة واتحاد رجال الأعمال في ذلك - ثالثاً.

اولاً- دور الدولة:

يتجلى هذا الدور في الأمور التالية: اعادة الإعتبار للوسائل البديلة - سن التشريعات اللازمة - الإنضمام إلى بعض الإتفاقيات.

أ- اعادة الإعتبار للوسائل البديلة:

    سنكتفي هنا بالإشارة إلى التحكيم والتوفيق، فالتحكيم كما رأينا كان موضوع شك مستمر في ظل النظام السابق خاصة التحكيم التجاري الدولي، وبالتالي فلا مناص من مبادرة السلطة الجديدة بالتذكير بأهمية التحكيم ودوره في التخفيف من بطء العدالة والقيام بالإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك، وعلى الأخص اصدار قانون التحكيم، وفقاً لما سيأتي في البند -ب- وما حال التوفيق بأفضل من سابقه، اذ قادت سياسة النظام السابق إلى جعل القانون رقم 74 لسنة 1975 المتعلق بالتوفيق والتحكيم بين المواطنين اقرب الى السراب منه إلى الحقيقة الإسناد المهمة الى لجان المحلات التي افتقرت إلى ثقة المواطنين ، ففشلت من حيث المبدأ في القيام بالمهام المنوطة بها. ثم اعطى المشرع الضربة القاضية إلى حد كبير، لهذه الوسيلة بالقانون الجديد رقم 4 لسنة 2010، حيث قصره على الدعاوى المدنية والتجارية التي تختص بها المحكمة الجزئية، ولم يصرح بأن عرض النزاع موضوع الدعوى على اللجنة المختصة وجوبي مما فتح الباب للجدل.

ب- الحاجة الى اصدار قانون لإعادة تنظيم التحكيم:

    قواعد التحكيم وردت اساساً في قانون المرافعات مع تطبيقات خاصة في قوانين متفرقة قانون البترول، قانون العمل، القانون البحري، الخ...) السمة البارزة لتلك القواعد انها بحكم تاريخ ظهورها في 1953 لم تراع التطورات التي شهدها عالم التحكيم في العقود الأخيرة ورغبة في تطوير التحكيم وتفعيله في ليبيا كلفت لجنة من امانة (وزراة) الإقتصاد والتجارة عام 2010 إعداد مشروع قانون، وتم اعداد المشروع الذي يتكون من (67) مادة وزعت على اربعة فصول :

- الفصل الأول معنون احكام عامة تسع مواد.

- الفصل الثاني في التحكيم الداخلي (المواد من 15 - 25). 

- الفصل الثالث التحكيم الدولي (المواد من 53 - 64). 

- الفصل الرابع احکام ختامية (المواد من 65 - 67).

    واعتمدت اللجنة على النصوص المنظمة للتحكيم في مشروع قانون الإجراءات المدنية العربي الذي اقرته الجامعة العربية كقانون نموذجي، كما اعتمدت اللجنة على القانون النموذجي (اليونسترال) وعلى بعض قوانين التحكيم الحديثة مثل قانون التحكيم المصري ومجلة التحكيم التونسية وقواعد التحكيم الفرنسية الواردة في قانون المرافعات الفرنسي الجديد الخ...، ومن يطلع على المشروع سيكتشف أنه تجاوز القواعد المنظمة للتحكيم النافذة من حيث ما استحدثه من أحكام كما انه ادخل العديد من مظاهر التطوير لتلك القواعد .

1- مظاهر التحديث في قانون التحكيم:

 ابرز هذه المظاهر:

 1- تنظيم التحكيم الدولي الذي اشار اليه قانون المرافعات في مادة وحيدة، وهي المادة 761 التي اكتفت ببيان المعيار الجغرافي، مكان صدور الحكم، لتمييز هذا النوع من التحكيم. وهذا المعيار يعتبر غير كاف، فضلاً عما يؤدي اليه من خلط بين التحكيم الدولي والتحكيم الأجنبي، أما المشروع فوضع معيارا يقوم على شرطين: الأول أن يكون موضوع التحكيم نزاعاً يتعلق بالتجارة الدولية، ويترتب عليه انتقال اموال او خدمات عبر الحدود، اما الثاني فيكمن في توافر حالة من الحالات الخمس التي نصت عليها المادة 53، وهي:

 - اذا كان المركز الرئيسي - لأعمال طرفي التحكيم واقعاً في دولتين مختلفتين وقت ابرام اتفاق التحكيم وفي حالة تعدد المراكز الرئيسية لأحد الطرفين، فتكون العبرة بالمركز الأكثر ارتباطاً بموضوع اتفاق التحكيم، واذا لم يتوافر مركز الأعمال فتكون العبرة بمحل الإقامة المعتادة. 

- اذا كان موضوع النزاع محل اتفاق التحكيم يرتبط بأكثر من دولة. 

- اذا كان أحد الأماكن المذكورة لاحقاً يقع خارج الدول التي يقع فيها المركز الرئيسي  - لأعمال طرفي التحكيم وهذه الأماكن هي: 

مكان اجراء التحكيم عينه اتفاق التحكيم او حدد طبقاً له ما كان تنفيذ جانب جوهري من الإلتزامات الناتجة من العلاقة التجارية والمكان الذي يكون الموضوع النزاع اوثق صلة به أي مكان ابرام العقد او مكان تنفيذه .

وعليه، فإن التحكيم في نظر واضعي المشروع يعتبر تجارياً دولياً بصرف النظر عن مكان اجرائه او مكان ابرام التصرف القانوني محل التحكيم او القانون المختار الحكم اجراءات التحكيم او للفصل في الموضوع. وبصرف النظر كذلك عن جنسية الأطراف او جنسية المحكمين. ولعل من أهم أحكام التحكيم الدولي حرية اختيار مكان التحكيم وعند عدم الإتفاق تتولى الهيئة تحديده (م 54) وحرية اختيار اجراءات التحكيم (م 58). وحرية الإتفاق على القانون الذي يحكم موضوع النزاع، واثر ذلك على سلطة المحكمين (م 58) وتم اختيار محكمة الإستئناف التي يراد التنفيذ في دائرتها لتقوم مقام محكمة مركز التحكيم الحاصل في الخارج، كلما اقتضى الحال ذلك في تطبيق قواعد القانون الدولي (م 56). 

2- تنظيم قاعدة استقلال شرط التحكيم التي لم يتطرق إليها القانون الحالي (مادة 3).

3- تنويع طرق التبليغ مع مراعاة أحكام الإتفاق (مادة 9).

4- الزام الهيئة بإعداد (محضر - تحديد المهمة) من خلال طلبات المحتكمين والمستندات المقدمة منهم (مادة 20).

5- تبني قاعدة الإختصاص بالإختصاص التي تعطي الهيئة سلطة الفصل في الدفوع المتعلقة بعدم اختصاصها (م 21).

6- تعاظم دور المحكم والذي تجسد ليس فقط في شأن مسألة الاختصاص، انما ايضاً مدى صلاحية اتخاذ اي اجراء يساعد في حل النزاع، وعلى الأخص سماع الشهود، ندب الخبراء، والأمر بتقديم مستند منتج في النزاع بحوزة أحد الأطراف، منح ايضا سلطة تفسير وتصحيح الأخطاء المادية أو الفصل في ما أغفل الفصل فيه (انظر المواد 21، .(41 ،42 ،40 ،39 ،23 ،22

 

2- مظاهر تطوير الأحكام النافذة:

 ابرز هذه المظاهر:

1- تطوير آليات الإتفاق على التحكيم بإضافة صورة (الإحالة في عقد مكتوب الى الوثيقة

تتضمن شرطة تحكيمية بمثابة اتفاق على التحكيم، إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءا من العقد) (مادة 2).

2- تطوير دور الكتابة بإعتبارها شرط صحة وليس مجرد وسيلة اثبات (م 5). 

3- تطوير آلية تشكيل الهيئة (مادة 14، 15) وكذلك نظام عزل ورد الحكم (م 17 و 17).

4- تطوير نظام الإعتراض على الحكم حيث حدد المشرع طريقين للإعتراض، وهما الإستئناف استثناء: أي في حالة الإتفاق على ذلك صراحة وعند عدم تحقق ذلك يكون الحكم نهائية (م 43) وبالتالي فإن دعوى البطلان هي الطريق المعتاد اذا توافرت احدى حالات سبع حددتها المادة 44 واعطي الإختصاص بها لمحكمة الإستئناف المختصة فيما لو كان النزاع قد صدر فيه حكم ابتدائي من المحكمة الإبتدائية التي جرى التحكيم في دائرتها) وميعادها ثلاثون يوماً من تاريخ تبليغ الحكم (مادة 45). وهي لا توقف التنفيذ تلقائيا، واذا أمرت المحكمة بالوقف عليها أن تفصل في الدعوى خلال 6 اشهر من تاريخ الأمر بالوقف (م 46). وعند الحكم بالبطلان، تحكم في الموضوع في حدود المهمة المعينة للحكم ما لم يتفق على خلاف ذلك (م 47).

5- تطوير اجراءات الإعتراف بالحكم التحكيمي وتنفيذه.

6- في ما يتعلق بالحكم التحكيمي الوطني يتطلب تنفيذه استصدار أمر بالتنفيذ من رئيس المحكمة الإبتدائية التي اودع اصل الحكم في دائرتها، وذلك بعد التحقق من امرين:

أ- انقضاء میعاد دعوى البطلان المشار اليه أعلاه.

ب- التحقق من عدم وجود موانع التنفيذ وهي:

1- عدم تعارضه مع حكم قضائي سابق صدر في موضوع النزاع.

2- عدم تعارضه مع النظام العام.

3- عدم تبليغه الى المحكوم عليه تبليغاً صحيحاً.

    مع امكانية التظلم من الأمر خلال شهر من صدوره امام محكمة الإستئناف التي تحكم فيه بحكم غير قابل للطعن مطلقا (م 51).

 

2- الإعتراف بالحكم التحكيمي الدولي أو الأجنبي وتنفيذه:

      الحكم الوطني والدولي يتمتعان بحجة الامر المقضي - بصرف النظر عن مكان صدوره (م 48 و 60). يتطلب تنفيذ الحكم الأجنبي او الدولي توافر شرطين:

    اولهما انتفاء الموانع (حددتها المادة 62 في سبعة أمور). والشرط الثاني استصدار امر بالتنفيذ من محكمة استئناف طرابلس بناء على دعوى ترفع بالإجراءات المعتادة مع ارفاق صحيفتها بأصل الحكم واتفاق التحكيم او صورة رسمية منه وترجمة معتمدة للحكم، والإتفاق أذا كانا محررين بلغة غير العربية (م 61).

   وللمحكمة أن تؤجل بت طلب الأمر اذا اثبت المحكوم عليه ان الحكم قد طعن فيه طبقاً لقانون مكان صدوره مع امكانية الزام المحكوم عليه بتقديم ضمان مناسب في حالة التأجيل.

  ويراعي بالنسبة للأحكام الأجنبية، بالإضافة إلى الشرطين المذكورين، مراعاة مبادئ المعاملة بالمثل وعدم مخالفة النظام العام في ليبيا (مادة 64).

    خلاصة القول، أن تبني المشروع الذي اعطيت ملامحه هنا من شأنه أن يساهم في تفعيل مؤسسة التحكيم في ليبيا وهو ما ندعو المشرع إلى الإسراع في القيام به، ويلزم ايضاً:

 

ج- الإنضمام الى الإتفاقيات ذات العلاقة:

   ونقصد هنا بشكل أساسي اتفاقية نيويورك لعام 1958 في شأن الإعتراف التحكيم الأجنبية. وتنفيذ أحكام

ثانيا - القانونيون ومواجهة تحديات التحكيم:

    دور القانونيين لا يقتصر - على مجرد مساهمة في نشر - ثقافة التحكيم والتوعية بأهميته في فض مختلف صور النزاعات التي يسمح فيها باللجوء الى التحكيم، وانما يشمل ايضاً العمل على الاقناع بأهمية ادراجه في العقود وصياغته على نحو واضح وجلي، واذا كانوا من مستشاري السلطة فيمكنهم النصح برفع العقبات التشريعية غير الضرورية التي تحد من استعمال التحكيم. وفي هذا السياق يمكن كل من قام في ليبيا بالدفع نحو ادخال التحكيم كمادة في الدراسات العليا او كمقرر اختياري على الأقل في الدراسات الجامعية بكليات الحقوق، وبدأ الفقه الليبي يهتم بالتحكيم.

 

ثالثا- الإتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة واتحاد عام رجال الأعمال: على سبيل الخاتمة:

    حان الوقت لتفعيل مراكز التحكيم التابعة للغرف، ولعل اقدمها التابع لغرفة بنغازي، ثم طرابلس، وهو الشأن ايضا بالنسبة لمركز التوفيق والتحكيم التابع للإتحاد العام الذي رأى النور في 2010، ولكنه لم يباشر نشاطه الى هذه اللحظة، ولعل اعادة تشكيل مجلس ادارته اخيراً يمكن أن يبعث فيه الروح. ودوره هام ليس فقط في ما يتعلق بالتوفيق والتحكيم، بل بالمساهمة في تذليل الصعوبات التي تواجه التحكيم في ليبيا ولا سيما من خلال الدورات التدريبية وبرامج التوعية والتثقيف. ولإتحاد نقابات رجال الأعمال دوره العام في هذا الشأن، اذ يمكنه الدفع بوسائل التسوية البديلة إلى الأمام. كان من المفروض أن يحتل التحكيم المكانة المناسبة من بين وسائل الفصل في المنازعات، وان يساهم بحكم ما يتمتع به من مرونة في التخفيف من بطء العدالة التي تعاني منها ليبيا في العقود الأخيرة. ومع ذلك فإن تركة النظام السابق انعكست سلبا على فعاليتها ليس فقط من خلال القيود التي فرضت على التحكيم الدولي خاصة، وانما ايضا بفعل المواقف العملية التي شهدتها الساحة الليبية، فضلا عن تدني ثقافة التحكيم. كل ذلك يملي على السلطة الجديدة مسؤولية اعادة الإعتبار لهذه المؤسسة الواعدة.