1. ظل تكييف التحكيم مرتعاً للخيال القانوني في تونس منذ أن أقدمت محكمة الاستئناف بتونس سنة 1999 على تغيير تكييف تحكيم عرض عليها بعنوان مكتوب بالبنط العريضة أول أسطر الصفحة الخارجية "تحكيم داخلي حر"، إذ اعتبرت أن التحكيم دولي، وأن هيئة التحكيم أخطأت في تكييف هذا التحكيم بأن اعتبرته داخلياً، في حين يتوافر فيه أكثر من معيار مـن معايير التحكيم الدولي، كيفما عرفه الفصل 48 من مجلة التحكيم.
2. وإذا كان الأستاذ حسن عرب يتذمر من "غياب مفهوم دولية التحكيم" فـي دولـة الإمـارات العربية المتحدة، فإن الفقه التونسي بدأ يتبرم من هذه الثنائية (تحكيم داخلي/تحكـيـم دولــي) التي أرقت المحكمين وأزعجت الفقهاء والدارسين وأرعبت المتقاضين.
3. غير أنه ينبغي التنبيه إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن محكمة الاستئناف بتـونس وإن اعتبرت أن من مطلق صلاحياتها أن تعيد إلى التحكيم تكييفه الصحيح بصرف النظـر عمـا ارتاه المحكمون، فإنها لم ترتب على ذلك بطلان حكم التحكيم المكيف خطـأ بأنـه داخل وعلى الرغم من اندهاش محكمة التعقيب من هذا التحليل الذي بدا لها سـنة 2001 غريبـاً، وغير منسجم، فإن قراراً صادراً في 9 أكتوبر 2014 عن الدائرة الرابعة لمحكمة التعقيـب (التي كثيرا ما جادت قريحتها بقرارات كالجوهر منذ أن كان يرأسها القاضي الألمعي عامر بورورو)، أعاد الأمور إلى أصلها بأن ذكر مجدداً بأنه من الصلاحيات الطبيعيـة لقاضـي الرقابة أن يصحح تكييف ما يعرض عليه من أحكام تحكيمية كما يصحح تكييف ما يعـرض عليه من عقود، وحتى من أحكام قضائية، دون أن يترتب على ذلك البطلان.
4. وبالمقابل فإن أحكاماً أخرى حديثة الصدور ما زالت تبحث عن الطريق الصحيح لوضع حد لمعضلة التكييف التي طال الجدال حولها، مع أنها تتلخص في بضع نقاط ينبغـي أن يتفـق عليها الجميع، وهي:
أ. أن التحكيم إما أن يكون داخلياً، وإما أن يكون دولياً، ومن المفروض أن توجد بعـض الفوارق بينهما من حيث النظام القانوني المنطبق، وخصوصاً في ما يتعلق بكيفية تعامل محاكم الدولة كليهما.
ب. أن وجه القضاء في أصل الدعوى ينبغي أن لا يتأثر بتكييف التحكيم. فصاحب الحـق في ظل نظام التحكيم الداخلي هو ذاته صاحب الحق في ظل نظام التحكـيم الـدولي، والباطل باطل سواء كان التحكيم داخلياً أم دولياً، والعدالة هي ذاتها سواء كان الطالـب من مواطني الدولة أم أجنبياً، وسواء كان مقره بتونس أم خارجها، وسواء كان المـال المتنازع فيه موجوداً في تونس أم خارجها، ولا يتأثر الإقرار بوجود الحق من عدمـه إلا باعتبارات أخرى لها علاقة بتحديد القانون المنطبق. فالأصل أن تكييف التحكـيم لا يغير من وجه الفصل في النزاع من حيث الأصل من قبل المحكم؛
ت. وبالمقابل فإن تكييف التحكيم له تأثير بين وجلي على نظام الإجراءات اللاحقة للتحكيم، من طعون وتنفيذ. وهذا هو مكمن الإشكال ومكمن الحل. فمن ناحية أولـى، لا يمكـن للقاضي إبطال حكم تحكيم لمجرد أن المحكم أخطأ في التكييف، بل ينبغـي عليـه أن يصحح التكييف، وأن يبني على ذلك النتائج القانونية الصحيحة المتعلقة بتطبيق قواعـد الاختصاص في مجال الابطال والإكساء بالصيغة التنفيذية وبتحديد طرق الطعن المتاحة قانوناً. ولا يتأتى هذا الرأي من فراغ أو من محض اجتهاد شخصي، بل هو راسخ في النصوص المرجعية في مجال الإجراءات المدنية والتجارية، وخصوصاً في الفصل 40 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية الذي ينص على أن المحكمة الابتدائية تنتـصب كمحكمة درجة ثانية للنظر "في الأحكام الصادرة ابتدائياً عن قضاة النـواحي التـابعين لدائرتها أو التي وصفت غلطاً بكونها نهائية". والواضح أن المحكمة الابتدائية لا تسلّم بالتكييف الذي يسبغه قاضي الناحية على حكمه ولا تتقيد به، لكنها لا تقـضـي بـنقض الحكم أو ببطلانه لوجود مثل هذا الخطأ، بل تصححه، وتبني عليه ما يتعين فـي مـا يخص التكييف وقابلية الحكم للطعن بالاستئناف. وينطبق ذلك أيضاً على التحكـيم، إذا كان في حقيقته دولياً، لكن هيئة التحكيم كيفته بأنه داخلي، حيث تقضي محكمة الطعـن وجوباً برفض كل طلب استئناف شكلاً، إذ إن الأحكام التحكيمية الدولية لا تقبل الطعن بالاستئناف مطلقاً، ولو وجد شرط في ذلك".
ث. أن المشرع التونسي كان صريحاً في الترخيص للأطراف في تغييـر تكييـف التحكـيم الداخلي، وذلك بتصييره دوليا بمجرد اتفاقهم على تطبيق الباب الثالث من مجلة التحكيم على تحكيم داخلي. وفي هذه الصورة لا يجوز للقاضي مراجعة التكييف التعاقدي ولـو عاين غياب أي عنصر من عناصر دولية التحكيم". وبالمقابل فـإن حريـة التكييـف التعاقدي لا تنصرف إلى الصورة العكسية، فلا يجوز لأطراف تحكيم دولي أن يصيروه داخلياً بمجرد الاتفاق على ذلك، لأن الأصل في التكييف أنه "مسألة ذهنية أولية" تفرض نفسها على القاضي ولا يحق له تغيير حقيقة الأشياء وجوهرها، بل هو يهم النظام العام من جهة تأثيره المباشر على تطبيق قواعد تهم النظام العام، وهي قواعد الاختصاص الحكمي وما يتعلق بطرق الطعن. فحرية التكييف هي حرية ذات أتجاه واحد، لا تصلح إلا للتدويل، لا العكس. فالأصل في القانون أن الأشياء تستمد وصفها القانوني (تكييفها) من طبيعتها الموضوعية أو من إرادة المشرع، ولذلك لا يكون للأطـراف أن يغيـروا الطبيعة القانونية لعقد أو واقعة أو مؤسسة، إلا بإذن صريح من القانون، وفي حدود ذلك الإذن.
ج. أن من دور القاضي التحقق من التكييف ولو لم ينازع فيه أحد، وذلـك بـالنظر إلـى تبعاته القانونية الهامة على قواعد النظام العام، وخصوصاً ما يتعلق بتحديد طرق الطعن الممكنة والمحاكم المختصة بالنظر في كل ما يتعلق بمساعدة التحك كل ما يتعلق بمساعدة التحكـيم juge d'appui أو الرقابة عليه من خلال الإبطال أو غيره من طرق الطعن.
ح. والإكسـاء بصيغة التنفيذ. ومع ذلك نرى بعض الأحكام تقضي فـي نزاعـات تتعلـق بإبطال أحكام تحكيمية دون أن تتثبت من هذا الأمر وتقتصر على عبارة: "لا نزاع بين الطرفين في أن التحكيم موضوع القرار المطعون فيه هو تحكيم حرصادر في مجـال التحكيم الداخلي، وبالتالي تنطبق عليه أحكام البابين الأول والثاني من مجلة التحكـيم" وقد أصابت محكمة التعقيب حين ارتأت في قرارها الصادر في 9 أكتوبر 2014 أنـه "ما دام تكييف التحكيم له ارتباط بالنظام العام، فإن قاضي البطلان ملزم بإثارة طبيعـة التحكيم إن كان دولياً أو داخلياً، ولو من تلقاء نفسه، دون أن يتقيـد بـالتكييف الـذي اعتمده الأطراف أو الذي خلصت إليه الهيئة التحكيمية. وبررت المحكمة ذلك بـأن المسألة "محددة بضوابط إجرائية. ذلك أن حرية أطراف التحكيم تكـون فـي اختيـار التحكيم وسيلة لفض الخلاف، ولا يمضي ذلك في ما يتعلق بمسائل الاختصاص وفـي الإجراءات بصفة عامة، فعلى المحكمة أن تبحث في التكييف الصحيح للتحكيم". ونحن نرى أنه ينبغي على فقه القضاء التونسي أن يتوقف عن مراوحاته بين الرأي ونقيـضـه في ما يتعلق بسلطة القاضي في مراقبة التكييف، وذلك بالانضباط وراء هذا القرار الذي نراه سليماً ومنسجماً تمام الانسجام مع منطق المنظومة القانونية التونسية ككل في مـا يتعلق بالتكييف بوجه عام، وفي ما يتعلق بمسائل الاختصاص الحكمي وطرق الطعـن التي اعتبرها المشرع من النظام العام. فالإقرار بأن "التحكيم مجموعة حريات" حـسب تعبیر الأستاذ عبد الحميد الأحدب لا يعني أن جميع ما يتصل بالتحكيم يدخل في مجـال الحرية، بل توجد دائماً مسائل هي من متعلقات النظام العام، والتوسع فيها أو التـضييق هو الذي يمثل العلامة الفارقة بين مشرع متحرر ومـشـرع مـتكلس أو محتـرز مـن التحكيم. والقانون التونسي نحا في ذلك منحى معتدلا في نظرنـا، إذ لـم يـوكـل إلـى الأطراف ولا المحكمين تحديد المحكمة المختصة في كل ما يتعلق بمـساعدة التحكـيم والرقابة عليه، أي الإجراءات القضائية الصرفة، خلافاً للإجراءات التحكيمية التي تتميز بالمرونة (خلافاً لما قد توحي به عبارة القرار التعقيبي المتقدم ذكره) ولا يلـزم فيهـا المحكم، إلا باحترام المبادئ الأساسية التي لا محيد عنها لضمان المحاكمة العادلة.
خاتمة:
5. إن ثنائية التحكيم الداخلي التحكيم الدولي تهدف إلى تيسير التعامل مع التحكيم الداخلي أنها اتخذت في القانون التونسي منحى مغايراً، إذ إنه توجد عدة مواضع يتمتع فيها التحكـيم الداخلي بمرونة أكبر مما هو متاح للتحكيم الدولي، كما أن تعقد التطبيقات القضائية وتباينهـا وتضاربها واضطرابها يجعل المسألة جديرة بالتذكير مجدداً بالأوليات، لعل الفقه وفقه القضاء يتفقان على توجه سليم وبسيط ويسير التطبيق .
6. والقراءة يسيرة التطبيق هي في نظرنا، تلك التي تنطلق من عبارات الفصل 48 من مجلـة التحكيم والحريات الواردة فيه، وخصوصاً حرية تغيير وصف التحكيم من تحكيم داخلي إلى تحكيم دولي بمجرد اتفاق الأطراف، علاوة على المعايير الموضوعية والجغرافيـة الـواردة بالفصل 48، والتي تجعل للتحكيم الدولي مفهوماً واسعاً يسهل أن تحشر فيه جل التحكيمـات عدا ما لم يكن فيه أي معيار من معايير الدولية (الكثيرة والمتشابكة والتبادلية). وربما كـان التنقيح المرتقب لمجلة التحكيم مناسبة للتأكيد على هذه المعاني البسيطة التي لـم تتعقـد، بسبب اختلاف المحاكم حولها وبروز بعض الاجتهادات المتسرعة التي كادت أن تصبح فقـه إلا قضاء حقيقي.