تعترف معظم قوانين التحكيم الوطنية، والاتفاقيات الدولية للتحكيم، وقواعد مؤسسات التحكيم الخاصة بالحرية الكاملة للأطراف في اختيار مكان التحكيم أو مقره. وفي حالة عدم اتفاق الأطراف على تحديد مكان التحكيم، فإن هيئة التحكيم ستقوم باختيار المقر طبقاً للقواعد القانونية واجبة التطبيق.
ويمكن تعداد الأهمية القانونية لتحديد مقر التحكيم في النقاط التالية:
1 ـ إذا لم يحدد الأطراف القانون واجب التطبيق على إجراءات التحكيم فالمعتاد أن قانون دولة المقر هو الذي يحدد الإطار الإجرائي للخصومة.
2 . معرفة القضاء الذي يمكنه التدخل لمساعدة هيئة التحكيم في مباشرة عملها، كالحكم على من يتخلف من الشهود عن الحضور أو يمتنع عن الإجابة، أو الأمر بالإنابة القضائية ، أو الأمر بتنفيذ الإجراءات التحفظية والوقتية التي اتخذتها هيئة التحكيم، أو غير ذلك من كل صور المساعدة التي يمكن تقديمها .
3 . معرفة القضاء الذي يمكن الطعن أمامه ببطلان حكم التحكيم، فالمعتاد أن يتم الطعن ببطلانه أمام محاكم دولة المقر. ويعد اختصاص محاكم دولة المقر بنظر دعوى البطلان هو الاتجاه المستقر في القضاء المصري .
هذا وبالرجوع لقانون التحكيم المصري بشأن تعيين مقر التحكيم نجد أنه يقضي بالمادة ٢٨ أن الطرفي التحكيم الاتفاق على مكان التحكيم في مصر أو خارجها. فإذا لم يوجد اتفاق عينت هيئة التحكيم مكان التحكيم مع مراعاة ظروف الدعوى وملائمة المكان لأطرافها. ولا يخل ذلك بسلطة هيئة التحكيم في أن تجتمع في أي مكان تراه مناسباً للقيام بإجراء من إجراءات التحكيم كسماع أطراف النزاع أو الشهود أو الخبراء أو الاطلاع على مستندات أو معاينة بضاعة أو أموال أو إجراء مداولة بين أعضائها أو غير ذلك".
أما إذا لم يتفق الأطراف على اختيار هذا المقر تولت هيئة التحكيم القيام بهذه المهمة مع الأخذ في الاعتبار الظروف والملابسات المحيطة بكل نزاع على حدة. ولا يعني تحديد المقر سواء باتفاق الأطراف أو بواسطة الهيئة ضرورة الالتزام بهذا المقر على نحو صارم بحيث لا تعقد جلسات التحكيم وكل ما يتعلق به من إجراءات إلا في دولة المقر، وإنما يكون للهيئة أن تجتمع في أي مكان آخر تراه مناسباً للقيام بأي إجراء من إجراءات التحكيم كسماع الأطراف أو الشهود أو الخبراء أو معاينة بضاعة... الخ.
وتأسيساً على ذلك ينبغي التفرقة بين المكان المادي للتحكيم الذي يتسع لكل الأماكن التي تعقد فيها مختلف جلساته حتى النطق بالحكم ومقر التحكيم بوصفه فكرة قانونية تترتب عليها الآثار الهامة التي سبق ذكرها. ولذلك ورغم اختلاف الأماكن والبلدان والمدن التي قد تعقد فيها جلسات التحكيم، فإن مقر التحكيم بوصفه فكرة قانونية يبقى واحداً ، وهو المقر الذي اتفق عليه الأطراف أو تم تحديده بمعرفة الهيئة، الذي يعد حكم التحكيم وكأنه قد صدر فيه ، ولو كانت مختلف جلساته قد عقدت في أماكن أخرى. وقد أرسى هذا المبدأ قانون التحكيم النموذجي لليونسترال، ثم تلاه بعد ذلك القوانين الوطنية وغير الوطنية التي تأثرت به .
ورغم ذلك فإن بعض هيئات التحكيم المؤسسي تتجه اتجاهات أخرى. ومن ذلك ما ذهبت إليه قواعد محكمة لندن للتحكيم من تقرير قرينة مقتضاها رضاء الأطراف بمدينة لندن بوصفها مقرا للتحكيم في حالة عدم اتفاقهم على تحديد هذا المقر، إلا إذا رأت محكمة التحكيم غير ذلك بعد إعطاء الفرصة المناسبة للأطراف للاتفاق كتابة على اختيار مقر آخر.
ويبحث مسألة مقر التحكيم الإلكتروني بتنظيم محكمة القضاء، وجد أن المادة 13 من ذلك النظام تقضي بأنه (1) بكسب مقر التحكيم وفقاً لأحكام هذا التنظيم نفس المفهوم القانوني لمقر التحكيم العادي. ولا يتطلب هذا المفهوم ضرورة جلوس المحكم في مكان محدد في أي مرحلة من مراحل التحكيم. (2) يجوز للسكرتارية، قبل تشكيل هيئة التحكيم، وبناء على طلب أحد الأطراف أن تحدد مؤقتاً مقر التحكيم. (3) تحدد هيئة التحكيم المقر مع الأخذ في الاعتبار ظروف الدعوى ورغبات الأطراف ، والواقع أن هذا النص يتضمن تفصيلات عدة لا يمكن تجاهلها:
أولا: بدأ النص واضحاً في تحديد المفهوم القانوني لمقر التحكيم الإلكتروني مؤكداً أن هذا المفهوم لا يختلف من ذلك المفهوم الذي يكتسبه في التحكيم التقليدي، فاختلاف الوسيلة بين التحكيمين التقليدي والإلكتروني لا يؤثر على المفهوم القانوني لمقر التحكيم، على اعتبار أن المحكم في الحالتين شخص طبيعي يجلس في النهاية في مكان محدد .
ثانياً: لا يتطلب تحديد دولة محددة بوصفها مقرا للتحكيم الإلكتروني ضرورة أن تتم جميع الإجراءات المتعلقة به في هذه الدولة، فمن الممكن أن ينتقل المحكم من دولة إلى أخرى للمعاينة أو التحري عن بعض الأمور المتعلقة بموضوع النزاع. وفي ذلك يستوي التحكيم المميكن مع التحكيم غير المميكن، فكما يمكن للمحكم في النوع الأخير أن يصطحب معه ملف الدعوى إلى أي مكان، يمكنه في النوع الأول الدخول إلى موقعها الإلكتروني من أي مكان وباستخدام أي جهاز كمبيوتر، دون حتى أن يصطحب معه جهازه الخاص به ما دام يحتفظ بكلمة السر التي تمكنه من الدخول للموقع.
ثالثاً: أجاز النص للسكرتارية أن تقوم بناء على طلب أحد الأطراف بتحديد مقر مؤقت للتحكيم الإلكتروني، ويخضع حق السكرتارية في ممارسة هذه الرخصة للشرطين التاليين:
1 - أن يتم اختيار السكرتارية للمقر المؤقت قبل تشكيل هيئة التحكيم، فهذه الهيئة لو شكلت لما أصبح هناك داع لتدخل السكرتارية .
2- أن تقوم السكرتارية بهذا الإجراء بناء على طلب أحد الطرفين سواء كان المدعي أو المدعي عليه. ويتوافر هذا الشرط من باب أولى إذا كان الطلب موجهاً من الطرفين معا. وتأسيساً على ذلك لا يجوز للسكرتارية أن تقوم من تلقاء نفسها بتحديد مقر التحكيم الإلكتروني دون أن يتقدم إليها أح أحد الأطراف بطلب لتحديد هذا المقر، حيث يعد التقدم بهذا الطلب بمثابة شرط مبدئي لاختصاصها بهذه السلطة.
هكذا وفي حالة توافر هذين الشرطين يمكن للسكرتارية أن تقوم بتحديد مقر مؤقت للتحكيم الإلكتروني. ويتعلق الأمر برخصة وليس إلزاماً، فقد ترى السكرتارية أنه لا ضرورة تبرر تحديد المقر في هذا الوقت المبكر، ومن ثم تفضل الانتظار لحين تشكيل هيئة التحكيم لتتولى هي القيام بهذه المهمة.
رابعاً: تحتفظ جميع النظم القانونية بهيئة التحكيم بوصفها سلطة احتياطية تتولى تحديد مقر التحكيم في حالة عدم اتفاق الأطراف على تحديده. ومن العجيب أن المادة 3/13 المذكورة قد تجاهلت وربما عصفت بهذه القاعدة عندما قررت قيام الهيئة بتحديد مقر التحكيم الإلكتروني مباشرة دون أية إشارة لإرادة الأطراف.
أما بشأن مقر التحكيم الإلكتروني الذي تضمنته الإجراءات التكميلية لجمعية التحكيم الأمريكية نجد أن المادة 10 التي تحمل عنوان "مكان التحكيم" Place of award تنص على أنه "لطرفي التحكيم الاتفاق كتابة على مكان الحكم، مع ذكر المحكم لهذا المكان في الحكم. وفي حالة غياب مثل هذا الاتفاق، يتعين على المحكم تحديد مكان الحكم مع ذكره في الحكم" .
وأقل من القول بأن هذا النص يعد أفضل في الصياغة من مثيله من تنظيم محكمة القضاء؛ حيث يتفق مع القواعد العامة التي تحتم ترك الحرية للأطراف لاختيار مقر التحكيم. فالنص الأمريكي يتحدث عن مقر الحكم وليس عن مقر عملية التحكيم بأكملها، وهو ما يمنح المحكمين مرونة في التجول وعقد جلسات المرافعة هنا وهناك، دون إثارة أي مشكلة حيث تعد هذه الأماكن مقاراً لجلسات التحكيم وليست مكاناً لإصدار الحكم. بل ويتيح النص للمحكمين أيضاً إمكان النطق بالحكم في أي مكان آخر غير المتفق عليه، ولكن بشرط اعتبار أن الحكم وكأنه صدر في المكان مع ذكر هذا المكان في صلب حكم التحكيم الإلكتروني. فالمحكم ليس ملزماً باصطحاب جهاز الكمبيوتر الخاص به والانتقال خصيصاً إلى الدولة التي اتفق عليها الأطراف بوصفها مقرا للحكم الإلكتروني لمجرد إرساله على موقع الدعوى على شبكة الإنترنت من تلك الدولة. فإن اختيار مكان محدد مقرا لإصدار الحكم ليس معناه وجوب النطق فرضین:
وقد ميز النص بين فرضين :
الفرض الأول: اتفاق الأطراف على تحديد مكان إصدار حكم التحكيم الإلكتروني. ويلزم أن يتم هذا الاتفاق كتابة، فالمحكم لا يلتزم وفقاً لصريح النص بالاتفاقيات الشفهية.
الفرض الآخر: عدم اتفاق الأطراف على تحديد مكان إصدار الحكم. ولا غني من تدخل هيئة التحكيم الإلكتروني لممارسة واحد من أدوارها الإيجابية في تحديد المقر الذي يعد حكم التحكيم وكأنه قد صدر فيه. ويترتب على هذين الفرضين حكم عام قوامه التزام المحكم بذكر مكان إصدار الحكم في طلب حكم التحكيم الإلكتروني.