الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / جنسية ومحل إقامة الأطراف / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 38 / إثبات الجنسية أمام المحاكم وهيئات التحكيم الدولية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 38
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    59

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

   تعتبر الجنسية من المسائل الهامة بالنسبة لحامليها وللدولة أو الدول التي تمنحهم صـفتها الوطنية، فللجنسية – بوصفها حالة للشخص تبرز انتماءه لدولة ما ترتب له كثيراً مـن الحقـوق والمزايا وتلقي عليه بالأعباء المقررة على الوطنيين - أهميتها في مجال تنازع القوانين وتنـازع الاختصاص القضائي في ما يتعلق بالعديد من المنازعات المعروضة، خاصـة علـى المـحـاكم الوطنية.

   ولا تقتصر أهمية الجنسية على المنازعات المعروضة أمام القاضي الوطني حيث تتعدى ذلك لتمس العديد من الدعاوى المنظورة أمام المحاكم الدولية التي تعد الصفة الأجنبيـة، فـي معظـم الأحوال، شرطاً أساسياً لانعقاد الاختصاص لتلك المحاكم بالمنازعات المرفوعة أمامها من جانب الاشخاص الطبيعية أو الاعتبارية. فلجوء أي من هؤلاء الى محاكم التحكيم المختلط فـي بدايـة القرن الماضي أو الى مركز تحكيم واشنطن – على سبيل المثال – يستلزم ثبوت عـدم تمتعـه بجنسية الدولة التي يختصمها أمام تلك المؤسسات التحكيمية. كذلك فبالنسبة للدولـة – وبغـض البصر عما للجنسية من أهمية لها بوصفها أحد أركانها الأساسية – فقد تكون لها مصالح رئيسية أخرى في الاحتجاج بجنسية من أضفت عليهم صفتها الوطنية أمام المحاكم الدولية، كما هو الحال عند التقدم بطلبات الحماية الدبلوماسية أو عند اختصامها من جانب أي من وطنييها من مزدوجي أو متعددي الجنسية أمام هيئات التحكيم الدولية. فما من شك في أن للدولة المعنية – خاصة فـي الفرض الأخير – مصلحة حالة ومباشرة في إثبات تمتع مثل هؤلاء الاشخاص بجنسيتها، وفـي الدفع بعدم تمتعهم بالجنسية التي يدعون أمام بها وإثبات ذلك سعياً لإخضاعهم لمحاكمها الوطنية.

   والأمثلة على ذلك كثيرة كالمنازعات التي فصلت فيها مجالس التحكيم المختلط كتحكيم Massiani ،Miliani و Stevenson وقضايا James Lewis Drummond والبـارون كورافيا  وتحكيم فليجنهيمر وقضية ميرجـي سترونسكي وقضية جـورج سـالم وقضية المراســـم التونسية المغربيـة وقـضية نوتبـووم 10nottebhom وقضية  برشلونة تراكشن والقضايا التي فصلت فيها محكمة التحكـيم الإيرانيـة الامريكيـة. ومـن ذلك قضايا Champion" ووجيه سياج ضد مصر، وتحكـيـم كــازادو ضـد شـيـلي وتحكيم سوفراكي ضد الامارات، وقضية الأخوة ميكيولا ضد رومانيا15، وتحكيم فرنـك عارف ضد مولدافيا في 2013 أمام مركز تحكيم واشنطن لتسوية منازعات الاستثمارات الأجنبية.

   لقد عاصر نشوب تلك المنازعات وغيرها أمام المحاكم الدولية إثارة العديد من الملابـسات والمشاكل القانونية الخاصة بإثبات الجنسية. فقد يتخيل أن تتجه الدولة نحو الافراط في التيسير على المتنازع في جنسيته للتوصل للأدلة على الجنسية في مواجهة الدولة التي يختـصمها فـي المحافل الدولية. وهو أمر عادة ما يؤدي لأن تكون الجنسية المتنازع فيها مصدراً للشك في ظـل اتجاه العديد من الدول لمنح جنسيتها مجاملة للمستثمرين لجذب رؤوس أموالهم أو لتمكينهم مـن مخاصمة دول أخرى أمام المحاكم الدولية. كما قد يحدث أن يكون هناك اسراف فـي التـضييق على المتنازع في جنسيته بطريقة يصعب معها التوصل للأدلة والوصول إلى قرار حاسم بـشأن الجنسية. كأن تتجه الدولة نحو الحد من قدرته على استخدام طرق إثبات الجنسية كأن تـرفض الدولة مثلاً منحه الشهادة أو المستندات الدالة على الجنسية. كما أن تلك الشهادة بفرض صدورها، وإن كانت تفيد انتماء المستثمر للدولة التي أصدرتها فهي شهادة مواطنة ترتبط أكثر مـا يكـون بالشأن الداخلي في الوقت الذي تصبح فيه في ما يخص المنازعات المعنية بهـذه الدراسـة ذات تداعيات وآثار قانونية دولية. إزاء تلك الملابسات التي تصاحب المنازعـات الـدائرة حـول الجنسية أمام تلك المحاكم يثور التساؤل عمن يقع عليه عبء اثبات الجنسية المتنازع فيها، وعـن كيفية إقامة الدليل على التمتع بالصفة الوطنية؟ كما يثور التساؤل عما إذا كان للقاضي أو المحكم الدولي المثارة أمامه المنازعة ألا يأخذ بعين الاعتبار الأحكام والقرارات الصادرة من السلطات الوطنية بخصوص الجنسية؟ وما هي سلطة أيهما في إدارة الأدلة والتحقق من صـحة وقانونيـة المستندات المقدمة إليها كدليل على الجنسية أمام المحاكم الدولية؟

   وفي إطار بحثنا عن إجابة لتلك التساؤلات خليق بنا أن نبادر بتحديد من يقع عليـه عـ إثبات الجنسية في المنازعات الدولية (الفصل الأول) على أن ننتقل بعد ذلك – في ظل الـرفض المتبادل للخصوم حول تحمل هذه التبعة الإجرائية وما يصاحبه من إثارة القلاقل أمـام المـحـاكم الدولية حول الأدلة التي يسوقها كل منهم – نحو البحث عن سلطة المحاكم الدولية في إدارة الأدلة وعن حجيتها وقوتها القانونية. (الفصل الثاني).

الفصل الأول: عبء الإثبات في منازعات الجنسية أمام المحاكم الدولية

   يلزم لحسن استعراضنا المشاكل القانونية المصاحبة لإثبات أو نفي الجنسية أمـام المحـاكم الدولية أن نبادر بالتساؤل عن المبادئ العامة التي تحكم هذه المسائل أمام تلك الهيئات القضائية أو التحكيمية (المبحث الأول) على أن ننتقل بعد ذلك لاستعراض المستقر عليه عملاً أمـام الجهـات المشار إليها في ما يتعلق بعبء إثبات الجنسية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: المبادئ العامة للإثبات أمام المحاكم الدولية

   استقرت المحاكم الدولية على عديد من المبادئ العامة في الإثبات كثير منها مـستقى مـن المبادئ العامة المتبعة الأنظمة القانونية الوطنية، وبعضها طوعته تلك المحاكم بما يتفق وطبيعتها دونما اعتبار لكيفية إعماله أو نطاق تطبيقه أمام المحاكم الوطنية، ونظراً لسعة وعمق الدراسـات المتخصصة في مبادئ الإثبات أمام المحاكم الدولية واعتباراً لضرورة عدم الخروج عن إطار تلك الدراسة المنصبة على الإثبات أمام المحاكم الدولية، فإننا سنكتفي بالتعرض للمبادئ الأساسية التي تمس من قريب المنازعات حول الجنسية، والتي من أهمها مبدأ التزام المدعي إقامة الدليل علـى ما ادعى به (المطلب الأول) ومبدأ توزيع عبء الإثبات بين الخصوم فـي المنازعـات الدوليـة (المطلب الثاني).

المطلب الأول- التزام المدعي إقامة الدليل على إدعاءاته أمام المحاكم الدولية:

   الإثبات يعد الوسيلة المتبعة للوقوف على حقيقة الادعاءات والدفوع المثـارة مـن أطـراف الخصومات القضائية. وهو لذلك التزام وضرورة من جانب الخصوم للوقوف على صحة الوقائع المادية في المنازعات المعروضة على المحاكم الوطنية أو الدولية. وفـي منازعـات الجنسية المنظورة أمام المحاكم الوطنية فالمستقر عليه في العديد من الأنظمة القانونية أن عـبء اثبـات الصفة الوطنية أو الاجنبية لشخص ما يقع على عاتق المتنازع في جنسيته. فالمـادة 138 مـن قانون تنظيم الجنسية الفرنسية الصادر سنة 1945 نصت على أن عبء الاثبـات فـي مـسائل الجنسية يقع على عاتق من كانت جنسيته محلاً للنزاع. والمادة 24 من قانون الجنسية المصري تنص على أنه يقع عبء اثبات الجنسية على من يتمسك بالجنسية المصرية أو يدفع بعدم دخولـه فيها، أي من يدعي التمتع بالصفة الأجنبية. ويبرر هذا الاتجاه بتحميل المتنازع فـي جنـسيته عبء إثبات الأخيرة ما للدولة من امتياز التنفيذ المباشر للقرارات الإدارية في مجـال الجنسية. فالدولة لما تتمتع به من مكنة التنفيذ المباشر لقراراتها تملك مخاطبة الأفراد بالصفة الوطنيـة أو الأجنبية التي يتراءى لها وصفهم بها دون التزام بإثبات ذلك أمام القضاء. فإذا ما قامـت الدولـة بمعاملة الشخص على أنه أجنبي بحرمانه من ممارسة بعض الحقوق، كتقلّد الوظائف الحكوميـة، فلن يكون أمام هذا الفرد إلا إقامة الدليل على تمتعه بالصفة الوطنية. وإذا ما أملت دولة ما علـى أحد الأجانب المقيمين على أراضيها من الأعباء ما تفرض على وطنيبها كأداء الخدمة العسكرية فلن يكون أمام هذا الفرد إلا إثبات عدم تمتعه بجنسية تلك الدولة. وإذا كان القاء عبء الإثبات على عاتق المتنازع في جنسيته لا يناقض القواعد العامة متى تعلق بالمدعي في المنازعة حـول الجنسية، إلا أن تحمله هذا العبء في الفرض الذي يكون فيه مدعى عليه يقيم اسـتثناء لـصالح الدولة بوصفها صاحبة الامتياز المباشر في تنفيذ القرارات الإدارية الخاصة بالجنسية، ففي هذا الفرض يترتب على إنكار الجنسية عن شخص ما التزام الأخير إقامة الدليل على تمتعه بالـصفة الوطنية.

   أما في منازعات الجنسية المعروضة أمام المحاكم وهيئات التحكيم الدولية فالمستقر عليه أن عبء الإثبات يقع على من يدعي بالحق حيث عليه تبعة اثباتـه. فوفقاً للقاعـدة العامـة المعمول بها في التحكيم الدولي يتحمل المدعي عبء إثبات الوقائع التي يدلي بهـا، ويتحمـل المدعى عليه تبعة إثبات أوجه دفاعه ودفوعه القانونية. وتلك القاعدة تجد لإعمالها في هـذا الصدد العديد من الأسانيد القانونية، وليس ذلك إلا مراعاة للأصـول العامـة فـي المـسائل الإجرائية. فهذه القاعدة تستقي مصادرها من المبدأ الأزلي القائم في مختلف الأنظمة القانونيـة على أنه من ادعى بشيء فعليه إثباته. كما يجد هذا المبدأ المستقر عليه في القواعـد العامـة مصدراً في الفقه الاسلامي قوامه أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. فمن ادعى أمام القضاء ونازع في جنسية شخص ما يكون ملزما بإقامة الدليل على صحة ما ادعى حتى ولـو كان هذا الشخص هو الدولة أو أحد أشخاصها العامة. ويكون على القاضي الوطني – وفقـاً للقانون الدولي الخاص وعند المنازعة في الجنسية – استخلاص الوقائع القانونيـة المثبتـة أو المنكرة للصفة الوطنية.

 

  وأحكام هذا المبدأ متجذرة في العديد من الأحكام الصادرة في العديد من المنازعات الدولية. ففي قضية بعض المصالح الألمانية في الأعالي البولونيه certains intérêts allemands en haute-Silésie polonaise تلخصت الوقائع في قيام مندوب الحكومة البولونية باستعادة إدارة واستغلال مصنع نتروجين وتملك المنقولات وبراءات الاختراع وغيرها من الأمـوال الخاصـة بشركات Oberschlesische Stickstof-fwerke et Bayrische Stick stoffwerk، فضلاً عن إلغاء السجلات العقارية الخاصة بالأخيرة بوصفها مالكة للأراضي محل استغلال الأنشطة التعاقدية، الأمر الذي تم تكييفه بالمصادرة من جانب الحكومة الألمانية التي تقدمت لذلك بطلـب للمحكمة الدائمة للعدل الدولي لتسوية هذا الخلاف المتعلق ببعض المصالح الألمانيـة بأعـالي سيليزي البولونية. وكانت الحكومة الألمانية قد استندت في مطالبها الى نصوص القانون البولوني وعدد من المعاهدات الدولية. ولم يفت المستشار القانوني البولوني وهو بصدد الدفاع عن موقفه القانوني بتلك القضية التأكيد على أنه من المبادئ التي تضرب بجذورها فـي أعمـاق التـاريخ القانوني للبشرية أن من ادعى بشيء وقع عليه عبء إثباته.

  وفي قضية الفوسفات المغربي phosphates du maroc في مـارس 1936 اختـصمت الحكومة الإيطالية فرنسا أمام المحكمة الدائمة للعـدل الـدولي بخـصوص فوسفات المغـرب حيث كانت إدارة المناجم المغربية قد أصدرت ثلاثة وثلاثين ترخيصاً بأولوية التطبيـق لـصالح Busset et Frier Deruis MM. Francis الفرنسيي الجنسية والذين بعد مضي ثمان سنوات كانوا قد تنازلوا عنها للسيد M. Costantino Tassara الإيطالي الجنسية الذي كان بدوره قـد تنازل عنها للشركة الإيطالية Fosfati Miniere e. ولقد تعرضت التراخيص للإلغاء من جانب السلطات المغربية التي كانت آنذاك تحت الحماية الفرنسية بغية استبعاد الشركة الإيطالية الأمـر الذي حدا بإيطاليا على اللجوء الى المحكمة الدائمة للعدل الدولي مطالبة بالتنفيذ العيني للالتزامات العقدية والتعويض للمسؤولية الدولية للحكومة الفرنسية.

  ولقد كانت الحكومة الإيطالية حال دفاعها عن موقفها أمام المحكمة المشار إليها قد أشـارت إلى أن "المبادئ العامة للأمم المتمدنة تستلزم أن يكون على كل طرف إثبات الأساس القـانوني لما ترتكز عليه ادعاءاته أو لما يصبو للتوصل إليه" .

   ولم يختلف الحال في العديد من القضايا التي نظرت أمـام محكمـة العـدل الدوليـة. ففي قضية مـضيق كورفـو Detroit de Corfou بـيـن كـل مـن بريطانيـا العظمـى وايرلندا الشمالية، من جهة، وبين الحكومة الألبانية، من جهـة أخـرى، كانـت المنازعـة قد نشأت لتعرض سـفن الحـرب البريطانيـة لخسائر كبيـرة فـي المعـدات والأرواح نتيجة التفجيرات التي لحقت بها عام 1946 لاصطدامها بألغام حال عبورها مضيق كورفـو في منطقة سبق تطهيرها في المياه الألبانية. لجأت المملكة المتحدة لمحكمة العدل الدولية في مايو 1947 متهمة ألبانيا بزرع ألغام أو بالسماح لدولة أخرى بفعل ذلك بعد قيـام بريطانيـا بتطهير تلك المياه البحرية. ولقد تم نظر تلك المنازعة على ثلاث مراحل تخللتها أحكام ثلاثة صدرت عن محكمة العدل الدولية انصب أولها على الاختصاص، والثـانـي علـى إقـرار مسؤولية ألبانيين بالتطبيق للقانون الدولي، والثالث على تقدير مبـالغ التعويض الواجبـة للحكومة البريطانية. وفي تلك الدعوى التي انتهت فيها المحكمة بإدانة ألبانيا كان المستشار القانوني للأخيرة قد أكد على ضرورة الالتزام بإلزام مـن ادعـى بـشيء (أي الحكومـة البريطانية) بأن يقيم الدليل عليه بوصف ذلك من قواعد الإثبات المستقرة بالأنظمة القانونيـة الوضعية.

   وفي قضية الصيادين Affaire des pécheries التي تلخصت وقائعها في تقـدم المملكـة المتحدة وأيرلندا الشمالية بطلب لمحكمة العدل الدولية عام 1949 ضد النروج لترســم الحـدود البحرية المتعلقة بمنطقة الصيد النروجية33 أقر الخصوم بأن عبء الإثبات كان واقعاً على المدعي الحقيقي في الخصومة الدولية.

   وفي قضية حق المرور علـى الأراضـي الهنديـة Droit de passage sur territoire indien التي ثارت بين الهند والبرتغال أمام محكمة العدل الدولية، كانت القـضية قـد تعلقـت بالممتلكات البرتغالية في شبه الجزيرة الهندية في دادرا وناغار آفيلي اللتان كانتا منتصف عـام 1954 تخضعان للحكم الذاتي المحلي، والتي باسمهما طالبت البرتغال المحكمة الدولية بإلزام الهند بضمان حق المرور إليهما بالقدر اللازم لممارسة سيادتها الاقليمية بعـدما منعتهـا الهنـد مـن ممارسته في يوليه 1954. وبعد تداول الدعوى بأروقة المحكمـة الدوليـة وإصـدارها حكمـاً بالاختصاص في 26 نوفمبر 1957، خلصت في أبريل 1960 إلى أنه وإن كان للبرتغال الحـق في المرور المطالب به، إلا أن هذا الحق لا يشمل القوات المسلحة والشرطة المسلحة والأسلحة والذخائر، وأن الهند لم تتصرف بما يتعارض مع الالتزامات التي يفرضها عليها الحـق المـشـار إليه35. وأياً ما كان الأمر فما يهمنا في هذا الصدد ما أشار إليه السيد مورينو كانتانــا Moreno Quintana في رأيه المقرر وأوردته المحكمة من أن "وجود حق ما في العلاقات الدولية يعـد واقعة"، وأنه متى بات هذا الحق مطعوناً فيه" وجب إثباته من جانب الطرف الذي ادعى به وليس ذلك إلا مبدأ أساسيا للإجراءات .

   ولا يختلف الحال في السوابق التحكيمية حيث تم مراراً التأكيد على ضرورة مراعـاة مبـدأ إلزام المدعي بإقامة الدليل على مزاعمه في العديد من المنازعات التي عرضت على محاكم التحكيم المختلط أو على مراكز التحكيم المؤسسية. فمن أحكام التحكيم الدولية ما حرص على التأكيد علـى عالمية هذا المبدأ وتسخيره من جانب الأنظمة القانونية الوطنية كالحكم الصادر بقضية queen والذي انتهت هيئة التحكيم فيه إلى أنه يجب علينا مراعاة المبدأ المسخر من جانب مـشرعي كـل الدول، والذي قوامه أنه يجب على المدعي مراعاة إقامة الدليل على مزاعمه .

   وكــــذلك حكـم التحكـيم الـصادر فـي يونيـة 1955 بقضية الـشحنات المحولـة the diverted cargos – والذي أصر على التأكيد أن مبادئ القانون الدولي هي التي تحكـم - من بين ما تحكم – مسائل إدارة الأدلة. وأن هذه المبادئ وجدت ضالتها في كتابات الفقه، وخاصة في السوابق القضائية الدولية التي تتسق والمبادئ التي تحكم تفسير العقود في الأنظمة القانونيـة بالدول المتمدنة. وفي تلك القضية كان النزاع قد انصب على تطبيق اتفاق سبق إبرامه في 11 فبراير 1942 بين اليونان والمملكة المتحدة بخصوص تقدير قيمة التعويض النقدي للأولى بسبب  قيام انجلترا بتحويل الشحنات الواردة خلال الحرب العالمية الثانية من الولايات المتحدة الامريكية تجاه عدد من الموانئ اليونانية عن وجهتها الأصلية وتحويلها للشرق الأوسط لصالح السلطات البريطانية. وحيث أثيرت تساؤلات بخصوص إثبات العملة واجبة الأخذ بعين الاعتبار في تقدير التعويض واجب الوفاء للحكومة اليونانية انتهت هيئة التحكيم إلى أنه " في ما يخص عبء الإثبات على الدولة التي تطالب دولة أخرى بتنفيذ التزام ما أن تقوم باثبات وجوده وأن تقيم الدليل علـى مبلغ الدین .

    وأياً ما كان المصدر الذي تستقي منه المحكمة الدولية مبررات إلزام المدعي بإقامة الـدليل على صحة مزاعمه، فمما لا خلاف عليه أن محاكم التحكيم مستقرة على أنه ليس بوسـعها إلا التمسك بالمبدأ المعتاد الذي يلقي بعبء الإثبات على المدعي. وهذا ما ترجمتـه – فـي نهايـة عشرينيات القرن الماضي – محاكم التحكيم المختلط الألمانية الفرنسية بقضية مزرعـة روينـار الأب والإبـن Firme Ruinart père et fils واليونانيـة التركيـة بقـضية بنـك الـشرق Banque d'Orient – وفي بداية ثمانينياته – محكمة التحكيم الإيرانية الأمريكية في قـضية and per-am construction corporation: ففي القضيتين الأوليين international radas لم تتردد محاكم التحكيم آنذاك في التأكيد على أنها ليست ملزمة بالقانون المعني، وأنه عند غياب  النص في الاتفاقية فلا يمكنها إلا التمسك بالمبدأ المعتاد الذي يلقي بعبء الإثبـات علـى عـاتق المدعي. وفي الثانية لم تتردد المحكمة عن الإشارة إلى أنها "بحاجة للتذكير بالاتجاه العام القائم على أن عبء الإثبات يقع على الطرف الذي يؤكد أو يدعي واقعة ما... فـي جميـع تتحمل عبء الإثبات مختلف الأطراف في ما يتعلق بقضايا معينة تبعاً لطبيعة الادعـاءات التـي يسعى كل منهم إلى استدعائها والاعتماد عليها الحـالات .

   يبين مما تقدم أن المحاكم الدولية وجدت مناسبات عدة للتأكيد على أن القاعدة المتبعـة فـى الإثبات أمامها تقتضي إلزام المدعي بإقامة الدليل على ما أتى به، وأن هذا المبدأ يعتبر من بـين الركائز في المسائل الإجرائية.

المطلب الثاني- توزيع عبء الإثبات بين الخصوم أمام المحاكم الدولية:

   كذلك فمن بين المبادئ الأساسية في الاثبات أمام المحاكم الدولية مبدأ توزيع عبء الإثبـات actori incumbit probatio والذي يقتضي التزام كل خصم بإثبات الوقائع التي ساقها دعمـاً للادعاءات التي يطالب الحكم له بها. وهذا المبدأ المتبع في جل الأنظمة القانونية الوطنية سخرت له العديد من الكتابات الفقهية. فالفقيه ويتنبرج لم يفته التأكيد على أنه "يوجد في القانون الدولي قاعدة قوامها توزيع عبء الإثبات... وتلك القاعدة تقوم بالتحديد على فرض عبء مساو للإثبات على كل من المدعي والمدعى عليه". وتوزيع عبء الاثبات لا يتم على أساس العلاقة الإجرائية بين المدعي والمدعى عليه. فعبء الإثبات أمام المحاكم الدولية يقع على عاتق الطـرفين تبعـاً للادعاءات الخاصة بكل منهما. فهو لا يقع على المدعي وحده، ولكن أيضاً على المدعى عليه، لأن التبعة تكون موزعة بين الخصوم. ويجد مبدأ التزام كل طرف بتحمل عبء إثبات ادعاءاته أساسه في نصوص اتفاقات التحكيم وفي اللوائح التأسيسية لمجالس الـصلح ومراكـز التحكـيم الدولية. فقد ورد النص على هذا المبدأ في العديد من النصوص الاتفاقية والقانونية الدولية وكثيراً ما تم إعماله أمام مختلف المحاكم الدولية.

   ففي إطار القواعد المنظمة للإجراءات أمام محكمة العدل الدولية أو أمام مختلـف الهيئـات التحكيمية نجد أن نظام المبادرة بالتقدم بأوراق الإجراءات والبدء بالمرافعة يجـب أن لا يـؤدي بالمحكمة الدولية إلى تكوين عقيدة مسبقة في ما يخص الإثبات. ولقد ورد النص على تلك التقاليد الإجرائية في العديد من اتفاقات التحكيم كنص المادة II من الاتفاق الذي أبرمته المملكة المتحـدة وفرنسا في 29 ديسمبر 1950 والمادة الثانية من اتفاق التحكيم السابق إبرامه بين بلجيكا وهولندا في 7 مارس 1957 والمادة الرابعة من اتفاق التحكيم المبرم بين تونس وليبيـا فـي 10 يونيـة 1977 والاتفاق المبرم بين كندا والولايات المتحدة الامريكية في 29 مارس 1979. ومـن ذلـك أيضاً نص المادة السادسة من الاتفاق المبرم بين كندا وفرنسا في 23 أكتوبر 49.1985 ويعني هذا الشرط أن كل طرف يجب أن يقيم الدليل على ما ادعاه دون أن ينتج من ذلك أن الطرف الـذي يبادر بتقديم مذكراته أو يمارس أوجه دفاعه أولا يحظى بصفة المدعي ويقع عليه بالتبعية تحمـل كامل عبء الاثبات.

   فقد ورد بالعديد من لوائح مجالس الصلح واللوائح التأسيسية لمراكز وهيئات التحكيم الـنـص على التزام كل طرف بالتقدم للمحكمة المختصة بالمستندات المبررة لوجهات نظره في مختلـف مراحل الإجراءات المتبعة أمامها. فهذا النوع من النصوص يمثل تطبيقاً خاصاً للمبدأ الذي يفرض على الخصوم المترافعين إثبات دعواهم. من ذلك ما ورد صراحة في الفقرة الأولى من المـادة 24 من لائحة التحكيم بمحكمة التحكيم الإيرانية الامريكية حين قررت أن "يتحمل كل طرف عبء اثبات الوقائع التي يستند إليها لدعم موقفه أو الدفاع عنه.

  كما نصادف بالعديد من اتفاقات ولوائح التحكيم ما يفيد المستقر عليه من التزام كل من أتـى بادعاء بإقامة الدليل عليه. من ذلك النصوص المنبثقة من مشروع الاتفاقية الخاصـة بـإجراءات التحكيم المتبناة من جانب مجلس القانون الدولي في دورته الخامسة. ويكفي لإبراز عمومية تلك القاعدة أن نبادر بذكر بعض النصوص التي وردت بعدد من الاتفاقات واللوائح التحكيمية، والتي من أهمها نص الفقرة الثالثة من المادة 63 من اتفاقية لاهاي لـسنة 1907 بخـصوص التـسوية السلمية للمنازعات المستقاة من المادة 15 من نموذج قواعد الإجراءات التحكيميـة الـذي تبنـاه مجلس القانون الدولي سنة 1958، والذي ورد فيه أن التحقيق المكتـوب يتكـون مـن تـبـادل المذكرات ومذكرات الرد والتقارير والمستندات بين الأطراف المعنية وأعضاء المحكمة وبين كل منهم والخصوم....

   نستخلص مما سبق أن النصوص القانونية الدوليـة والقـضاء الـدولي وأحكـام التحك والفقه مستقرة على الإلقاء بعـبء إثبـات الواقعـة المتنـازع فيهـا علـى مـن أدعـى بـهـا في الإجراءات الدولية. وأنه لا خـلاف علـى الاعتـراف لقاعـدة توزيـع عـبء الإثبـات actori incumbit probatio بين مختلف الخصوم في الإجراءات الدوليـة بالآثـار القانونيـة التي ترتبها والواجبة المراعاة في ما يتعلق بالمنازعات المثارة أمام المحاكم الدوليـة. والـسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الجنسية المتنازع فيها أمام المحاكم الدولية تعد مـن قبيـل المـسائل القانونية أو من بين الوقائع المادية وعلى من يقع عبء إثباتها أمام تلـك الهيئـات القـضائية أو التحكيمية؟

المبحث الثاني: تحديد عبء إثبات الجنسية أمام المحاكم الدولية:

المطلب الأول- إلقاء عبء الإثبات على المدعي في منازعات الجنسية:

   مما لا خلاف عليه أن الجنسية من بين المسائل التي متى أصبحت محـلاً للتنـازع أمــام المحاكم الدولية لزم إثبات وجودها أو الوقوف على انتفائها بالأدلة المادية والقانونية. تطبيقاً لذلك فقد سبق لممثل الحكومة الامريكية في قضية كارلوس كلومب التي تم النظر فيها أمـام مجلـس التحكيم المختلط الألماني المكسيكي التأكيد على أن "الجنسية - في القانون الدولي تعد حقيقـة يجب إثباتها". كذلك – وفي قضية فليجنهيمر في 20 سبتمبر 1958 – انتهت المحكمة إلى أنه -

 " يلزم إثبات حقيقة تلك المواطنة على نحو يرضي المجلس. وفي قضية نوتباووم انتهى القاضي جوجانهيم Guggenheim إلى التذكير بأن "التجنس يعد مسألة واقع واجبة الإثبات فـي إطـار الإجراءات الدولية." كما انتهت المحكمة الدولية لأعالي البحار في قضية سيجا ضد غينيـا affaire du navire saiga saint-vincent -el-les- grenadines c. Guinée فـي شـن مماثل إلى أن "المحكمة تعتبر أن جنسية السفن تعد مسألة واقع حيث تعد في اللحظات الحاسـمة كأي وقائع أخرى متنازع عليها أمام المحكمة، ويجب أن يتم الفصل فيها تأسيساً علـى وسـائل الإثبات المبداة من جانب الأطراف ."

  من هذا المنطلق، وحيث أصبحت المحاكم وهيئات التحكيم الدولية مستقرة – في ما يخـص منازعات الجنسية – على استلزام أن يبادر الخصوم بدعم ادعاءاتهم ودفوعهم بالأدلـة الماديـة وبالأسانيد القانونية  فيكون على من يدعي أو يستدعي الجنسية تحمل تبعة إثباتهـا أمـام تلـك المحاكم. وهذه القاعدة تجد لإعمالها العديد من الأسس القانونية.

   فقد سبق لمجلس التحكيم الخاص بالأموال والحقوق والمصالح في ألمانيا أن انتهى إلـى أن "مجرد الادعاءات من جانب المدعي لا يمكن اعتبارها بداية للإثبات، خاصة عندما يتعلق الأمـر بواقعة هامة لتأسيس الطلب... ومبدأ المساواة بين الأطراف يكون في هذا المقام مدعوا لممارسة دور مباشر وفعال حيث يستلزم إقامة الدليل على كل واقعة أو فعل مدعى بـه مـن جـانـب أي منهما ". فالمحاكم الدولية ومن بينها محاكم التحكيم يجب أن تفصل فيما عرض عليهـا تأسيـساً على الأدلة المقدمة إليها واعتباراً للصفة الإلزامية لتلك الأدلة التي لا يمكن التحايل عليهـا متـى أراد كل من الخصوم الانتصار لادعاءاته. فمن أراد أن ينتصر للحقوق التي ادعى بها فلا مفـر أمامه من إقامة الدليل على تمتعه بها وأحقيته فيها.

  ومما لا شك فيه أن أصول تلك القاعدة متجذرة في المبدأ العالمي القائم على أن من ادعـى بشيء فعليه إثباته. وهذا المبدأ المتعارف عليه بالقواعد العامة لمختلف الأنظمة الوضعية يتـرجم في الفقه الاسلامي بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. ومقتضاه في شأن الجنـسية أن من ادعى أو نازع أمام القضاء في الصفة الوطنية لشخص ما يكون ملزماً بإقامة الدليل علـى صحة ما ادعى به حتى ولو كان هذا الشخص هو الدولة أو أحد أشخاصها العامة.

  ولربما هذا الذي أشرنا إليه هو ما يفسر ما لهذا المبدأ من تطبيقات شهيرة ومتـواترة ف السوابق القضائية للمحاكم الدولية في مادة الجنسية. ففـي قـضية خطـوط حديـد بـانفيزي سالدتيسكيس panevezys-saldutiskis كانت الحكومة الإستونية قد اختصمت دولة ليتوانيـا أمام المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1937 نتيجة رفض الأخيرة الاعتراف بحقـوق الملكيـة وبحقوق الامتياز المدعى بها من جانـب شـركة Esimene Juurdeveo Raudteede Selts Venemaal على خطوط حديد Panevezys-Saldutiskis التي تم الحجز عليهـا واسـتغلالها بواسطة الحكومة الليتوانية. وكانت الدولة المعنية قد التمست من المحكمـة الإقـرار بمـسؤولية ليتوانيا عن مصادرة أموال الشركة الاستونية مطالبة تعويضها عن الأضرار التي تسببت بهـا الحكومة الليتوانية". وحال تناولها وقائع الدعوى ودفوع ودفاع الدولتين المختـصمتين انتهـت  المحكمة إلى أن "ممثل الحكومة الليتوانية كان محقا في دفاعه حين ساند أنه يقع على دولة استونيا عبء إثبات أنه في الوقت الذي حدثت فيه الأضرار المدعى بها والتي تثير مسؤولية ليتوانيـا فالشركة المتضررة كانت تتمتع بالجنسية الإستونية .

   وفي قضية برشلونة تراكشن Barcelona Traction التي تلخصت وقائعها في الطل الذي تقدمت به بلجيكا عام 1958 لمحكمة العدل الدولية ضد الحكومة الإسبانية بغيـة تعـويض الأضرار التي تسببت بها الأعمال التي اتخذتها الاجهـزة الإداريـة بإسبانيا فـي مواجهـة شركةBarcelona Traction, Light and Power Company, Limited والتي تتعارض مع القوانين الدولية كانت الدولة المدعية قد تنازلت عنها لصالح التفاوض المباشر مع إسبانيا للتوصل لحل بالطرق التفاوضية. غير أنه وبعد فشل المفاوضات، وخاصة بعد إعلان إفلاس الـشركة المتضررة، التي وإن كانت قد أنشئت بكندا، إلا أنها كانت مملوكة من جانب شـركاء متمتعـين بالجنسية البلجيكية، عادت بلجيكا أدراجها للمحكمة المشار إليها عام 1962 مطالبة بالتعويض عن الأضرار التي طالت أولئك الرعية. وفي تلك القضية وبغض النظر عن المشاكل الإجرائيـة المعقدة التي صادفت المحكمة الدولية  فحيث لم تتوقف الحكومة الإسبانية عن التذكير بأنه يقـع  على الحكومة البلجيكية عبء إقامة الدليل على الجنسية البلجيكية للشركاء الذين نـوت المطالبـة بتمتعهم بالحماية الدبلوماسية، فقد أثار أستاذ القانون الدولي الشهير البروفسور جيـسيوب jessup في رأيه المقرر أنه "من الواضح أنه كان على المدعي أن يتحمل تبعة إثبـات الجنسية البلجيكية للشركاء المساهمين الذين باسمهم ولأجلهم بادرت الحكومة البلجيكية باتخاذ الإجـراءات القضائية الدولية.

   كذلك في قضية سفينة سيجا سانت فانسن ضد دولة غينيا affaire du navire saiga saint-vincent -el-les- grenadines c. Guinée انتهت المحكمة الدولية لأعالي البحار إلى أن المدعي كان قد أقام الدليل القاطع على جنسية السفينة في الوقت الذي لم يستطع فيه المـدعى عليه إثبات ما يناقض ذلك .

  ولم تخرج الأحكام التي صدرت عن محاكم وهيئات التحكيم عن هذا النهج المستقر عليـه أمام المحاكم الدولية. فقد سبق لمحاكم التحكيم المختلط أن أكدت عليه في العديد من المنازعـات الخاصة بالجنسية: ففي تحكيم ورثة جان مانينا héritiers de Jean Maninat انتهى المحكم المختص بالفصل في المنازعات المثارة أمام مجلس التحكيم المختلط الفرنسي الفنزويلي إلى نتيجة مشابهة حين قرر أن "عبء إثبات هذه الحقيقة الأساسية – أي الجنسية الفرنسية – يقـع علـى بها. ذلك أن هذه الجنسية لا تتوقع أو تفترض لكنها تكون واجبة الإثبات. وفي قـضية كارلوس كلومب Carlos Klemp أمام مجلس التحكيم المختلط الألماني المكسيكي في 11 أبريل 1927 انتهت هيئة التحكيم إلى التأكيد على ذات النتيجة القانونيـة شـأنـها فـي ذلـك شـأن محكمة التحكيم المختلط الفرنسية الألمانية في 27 مايو 1927 بقضية الأب والإبن فيرم روينـار المد عي . Firme Ruinart père et fils.

   وهذا المبدأ المشار إليه والمستقر عليه منذ أمد بعيد بشأن عبء إثبات الجنسية أمام المحاكم الدولية لم تحد عنه محاكم التحكيم الحديثة التي أنشئت في العقود الأخيـرة بموجـب عـدد مـن المعاهدات الدولية: ففي حكم التحكيم الصادر عن محكمة التحكيم الإيرانيـة الأمريكيـة بقضية Riahi في 27 فبراير 2003 انتهت المحكمة إلى أنه وإن كان عبء الإثبات المثار في الدعوى لم يكن يتعلق بجنسية السيدة Riahi وإنما كان منصباً على ملكية الأسهم بالشركة التي كانت محلاً للمصادرة من جانب الحكومة الإيرانية – إلا أن المحكم Brower كان قد أشار في رأيه المقـرر "بأنه يقع على عاتق كل من الأطراف إقامة الدليل على الوقائع التي ادعاها، وأنه ينبغي تخفيـف هذا العبء في الإثبات إذا ما استبان أن المدعي كان مواجها بصعوبات خاصة مثلما كان الحـال في الدعوى المثارة، والتي كانت منصبة على قرار بمصادرة أموال الشركة التي كانـت الـسيدة Riahi مالكة لبعض الأسهم فيها، والذي كان يستحيل معه قيام المدعية بإرسال أسهمها المملوكة في الشركة بالحقائب من أجل التوصل للقول بأنها قد استوفت عـبء الإثبـات الملقـى علـى عاتقها . كذلك فقد انتهت بذات الطريق ولذات النتيجة محكمة التحكيم المشار إليها حين اعتبرت أن إقامة الدليل على جنسية المدعيين يقع على هذين الأخيرين دون أن تتردد أحياناً في إصـدار عدد من الأوامر الوقتية التي طالبتهما بها بضرورة إقامة الأدلة الدامغة على صفتهم الوطنية.

   وفي تحكيم شامبيون ترادينج ضد الحكومة المصرية كانت هيئة التحكيم قد أكدت على أنـه يقع على عاتق الإخوة وهبه إقامة الدليل على أنهم كانوا قد أذن لـهـم بـالتخلي عـن جنـسيتهم المصرية من جانب مصر التي كانوا يتمتعون بصفتها الوطنية. لذلك عنـدما أثـارت الحكومـة المصرية دفعاً قائماً على أنه كان يلزم لقانونية تمتع الإخوة وهبه بالجنسية الأمريكيـة ضـرورة طلب الإذن بالتجنس من السلطات المصرية بالتطبيق للقانون المصري للجنسية لم تتـوان هيئـة التحكيم عن تحميل الدولة المصرية عبء إقامة الدليل على أنها لم توقع قط على إذن بالتخلي عن هذه الجنسية. فالمحكمة، وإن كانت قد فرضت على مصر إقامة دليل سلبي من المستحيل تقديمه، كان عليها من باب أولى أن تطالب المدعين الأخوة وهبه بإقامة الدليل على تلقيهم الإذن بالتخلي عن الجنسية المصرية إلا أنها قد سارت على النهج المتبع القائم على توزيع عبء الإثبات بـين الخصوم مراعاة للمستقر عليه بالإجراءات الدولية.

   وفي تحكيم كازادو ضد دولة شيلي كانت الحكومة الشيلية قد دفعت بأن عبء الإثبات يقـع على عاتق المدعين تطبيقاً للمادة الثانية من النظام الأساسي للمركز، والخاصـة بقيـد وتنظــيم الجلسات. بينما كان دفاع كازادو قد أصر على أنه لم يرد بالنص المستند إليه ما من شأنه تحديد على من يقع عبء الإثبات. كما قيل بأنه وحيث أن طلب التحكيم يجب أن يشير إلى أن "المدعي ليس متمتعا بجنسية الدولة المتعاقدة الطرف في المنازعة سواء في تاريخ الرضا بالتحكيم أو فـى تاریخ تقديم طلب التحكيم"، فإنه إذا كان مركز تحكيم واشنطن قد اعتبر أن هذا الشرط لم يتحقـق في شأن كازادو لكان قد امتنع عن قيد الطلب الذي تقدم به، ولذا فإن هذه النقطة غير ذات جدوى بالنسبة لعبء الإثبات.

   ورداً على ذلك انتهت هيئة التحكيم إلى التأكيد على أن إثبات مدى تمتع كــازادو بالجنـسـية الشيلية يقع على عاتق طالب التحكيم أو المدعى به. وليس الأمر ببدعة من القول بالنسبة لهيئات تحكيم مركز واشنطن إذ سبق لها أن ألقت بعبء الإثبات على المدعي في تحكيم كلوكنير، وإن لم يكن الأمر في هذا التحكيم الأخير متعلقاً بإثبات الجنسية، وإنما كان منصباً على تحديد الثمن بمـا يستلزم عدم القياس عليه لكونه قياساً مع الفارق لاختلاف النزاع المشار إليه عن النـزاع حـول الجنسية .

     وفي حكم التحكيم الصادر عن مركز تحكيم واشنطن بقضية فرنك عـارف ضـد حكومـة مولدافيا في 2013 كانت الدولة المدعى عليها قد دفعت بعدم اختصاص المركز تأسيساً علـى أن السيد عارف لم يقدم ما يثبت أنه اكتسب الجنسية الفرنسية بالتطبيق للقانون الفرنسي في الوقـت الذي كان فيه المتنازع في جنسيته قد تقدم للمحكمة بمرسوم التجنس الـصـادر عـن الـسلطات الفرنسية. الأمر الذي قاده للدفع بأن الدولة المدعى عليها لا يمكنها أن تطعن على تمتعه بالجنسية الفرنسية في التاريخين المعتبرين باتفاقية واشنطن، وأن عليها إن فعلت أن تتحمل عبء إثبات أن السيد عارف ليس مواطناً فرنسياً، عملاً بالقانون الفرنسي، ما لم يثبت أن المدعي كـان قـد اكتسب تلك الجنسية بالتحايل أو نتيجة خطأ مادي وما دام قد قام بما يستلزمه القـانون الفرنسي للتجنس السليم بالجنسية الفرنسية. ففي الوقت الذي يتحمل المدعي عبء إثبات ما ادعى به فـإن هذا العبء لا ينتقل للمدعى عليها إلا بعد قيام الطرف الأول فعلاً به. فالسيد عارف الذي كان قد قرر عدم إصدار شهادة الجنسية الفرنسية كدليل على جنسيته أو كان قد فشل في الكشف عنها كان قد ظل محملاً بعبء إثبات تمتعه بتلك الجنسية وبإقامة الدليل على أنه مواطن فرنسي بـالتطبيق للقانون الفرنسي. وما دام عارف لم يقدم تلك الأدلة فسيظل غير مستوف شروط التمتع بالجنسية الفرنسية.

المطلب الثاني- نقل عبء إثبات الجنسية أمام المحاكم الدولية:

   إذا كان المبدأ أنه يجب على المدعي في منازعات الجنسية إثبات ما ادعى به فهل يمكن نقل عبء الإثبات للمدعى عليه كالمتبع بالتوازي في منازعات الجنسية أمام المحاكم الوطنية؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا نجد أفضل من استقراء عدداً من الأحكام الدولية خاصة الحديثة التي صدرت في هذا الشأن في مادة الجنسية. ففي تحكيم سوفراكي كان المدعي قد تقدم بعدد مـن المـستندات المقيمة من وجهة نظره لجنسيته الإيطالية، والتي كان من بينها وأهمها جواز السفر الإيطـالي وشهادة بالجنسية الإيطالية، بالإضافة إلى مستندات أخرى كانت صادرة عـن وزارة الخارجيـة الايطالية. وعلى الرغم من ذلك فقد طرحت هيئة التحكيم بمركز واشنطن تلك المستندات تأسيـساً على أنها لا تعد من قبيل "الأدلة القاطعة على التمتع بالجنسية الإيطالية". ولقد تعرض هذا الحكم للطعن عليه تأسيساً على عدة محاور من بينها إساءة استخدام هيئة التحكيم سـلطاتها الاجرائيـة. وعلى الرغم من رفض الطعن المشار إليه إلا أنه – وفي خضم عرضه لرأيه المقرر - انتهـى محكم سوفراكي، والذي وإن كان لم يعارض في سلطة هيئة التحكيم في التحقـق مـن جنـسية المدعي للوقوف على اختصاصها، إلا أنه اعتبر أن هيئة التحكيم لم تستفض في الأسباب بطريقة كافية للوصول إلى النتائج التي انتهت إليها، خاصة ما تعلق منها باستبعاد الجنسية الإيطاليـة المدعى التمتع بها. وتأكيداً على وجهة نظره انتهى المحكم في رأيه المقرر إلى أنه وعلى فرض صحة ما انتهت إليه محكمة التحكيم من أن الشهادات التي قدمتها السلطات الإيطالية بشأن الـسيد سوفراكي لم تكن مقيمة لدليل قاطع على تمتعه بالجنسية الإيطالية، إلا أن تقديم هذه الأدلة أمـام هيئة التحكيم كان من شأنه أن يؤدي الى نقل عبء الإثبات من على عاتق سوفراكي ليلقـي بـه على دولة الامارات العربية المتحدة. وأنه من حيث أن هيئة التحكيم لم تمتثل لذلك فإنها تعتبر قد تجاهلت إحدى القواعد الإجرائية الأساسية بطريقة من شأنها أن تعيب الحكم المنعي عليه .

  وعلى ما يبدو فلم تكن تلك السابقة الوحيدة التي تنتهك فيها القاعدة الإجرائية المقررة لإمكان نقل عبء الإثبات في منازعات الجنسية أمام المحاكم الدولية. ففي تحكيم سياج ضـد الحكومـة المصرية كانت الشكوك التي أثارتها مصر حول تلاعب السيد سياج بنص المادة العاشـرة مـن قانون الجنسية المصرية واستغلاله تساهل وزارة الداخلية المصرية وتسامحها في استخدام هـذا النص خارج نطاق تطبيقه قد قادت دفاع الدولة إلى المبادرة باتهام المـدعي صـراحة بـالغش والخداع في مسائل الجنسية. ولقد ترتب على إثارة هذا الدفع أمام تكليف الهيئة التحكيمية للحكومة المصرية بإقامة الدليل عليه، أي إثبات اقتراف السيد سياج للغش والخداع عند اكتساب الجنـسية اللبنانية.

   ولقد كان مستحسناً في تقديرنا – ووفق ما انتهى إليه فقه معتبر – ألا تثيـر مـصـر هـذه المشكلة التي ترتبط عملا بإثبات عسير قوامه كشف اللثام عن النوايا والاكتفاء بالتمـسك بعـدم انطباق المادة العاشرة على الحالة المعروضة وبتلافي الحكم المقرر بها والخاص بزوال الجنسية المصرية عن وجيه سياج فيما لو لم يستوف أحد شرطي الاحتفاظ بجنسيته المصرية وهو شـرط إعلان وزير الداخلية خلال فترة السنة المشار إليها في النص برغبته فـي الإفـادة مـن الإذن الممنوح له بالاحتفاظ بالجنسية المصرية. وإذا تم استبعاد إعمال المادة العاشـرة مـن قـانون الجنسية المصرية فيصبح المدعي على هذا النحو محتفظا بالجنسية المصرية لخـروج الحالـة المعروضة من نطاق تطبيق النص المشار إليه لأن اكتسابه الجنسية اللبنانية لم يكن اكتساباً إرادياً داخلاً في نطاق تطبيقها. ويقع على وجيه سياج عندئذ عبء إثبات فقـده الجنسية المصرية باعتباره الشخص الذي كانت جنسيته محلا للنزاع، ولأن مدعاه على هذا النحو يخالف الوضـع الظاهر ويناهض حيازته الثابتة للحالة المصرية، وفقا للتفسير الراجح للمادة 24 مـن تـشريع الجنسية المصرية القائم بوصفه القانون الواجب التطبيق في هـذا الـشأن، عمـلا بالقواعـد العامة. أما ما انتهت إليه محكمة التحكيم من تأكيد زوال الجنسية المصرية عن المدعي إعمالاً للمادة العاشرة وإلقاء عبء إثبات الغش عند طلب الحصول على الجنسية اللبنانية على عـاتق الحكومة المصرية فهو إعمال خاطئ للمادة المذكورة. فمسلك الهيئة التحكيمية يعد – فـي هـذا الصدد – إعمالا للنص المشار إليه خارج نطاق تطبيقه الذي حدده مشرعه. كمـا يعـد مخالفـة صريحة للمادة 24 من قانون الجنسية المصرية المتعلقة بعبء إثبات الجنسية المصرية وجوداً أو نفياً، شارك دفاع الحكومة المصرية في تيسير سبيل تحقيقه أمام المحكمة عندما ارتكز على فكرة الغش والخداع عند اكتساب وجيه سياج للجنسية اللبنانية.

الفصل الثاني: سلطة المحاكم الدولية في تقدير الأدلة على الجنسية

   السائد في منازعات الجنسية التي تثور أمام المحاكم الوطنية أن الدول لا تطلق الحرية فـي الإثبات متى تعلق الأمر بمسائل مهمة كتلك الخاصة بالجنسية. فالساري عملاً في المنازعـات التي تثار أمام المحاكم الوطنية أن تلزم الدولة الخصم بإثبات الحق أو المركز القانوني وفق أدلـة محددة، كما تقيد القاضي في ما يقرر في هذا الشأن بما تبرزه الأدلة. فعند المنازعة أمام القاضي الوطني بخصوص جنسية ما يكون قانون الدولة المتنازع في جنسيتها هو المنظم لتلك الجنسية لیا ولمسائل إثباتها. والقول بتطبيق قانون آخر بخلافه على المسائل المرتبطـة بإثبـات أو نف الجنسية مؤداه إمكان تقرير الجنسية لشخص ما أو نفيها عنه على خلاف مـا أرادتـه الـسلطة المانحة للجنسية. والعمل بغير ذلك يمثل انتهاكاً للمستقر عليه بالقانون الدولي من حرية كل دولة تنظيم مسائل الجنسية. بناء عليه فمتى أقر قانون الجنسية المتنازع وسائل معينـة لإثبـات الجنسية وجب إتباع تلك الوسائل لبت هذه المسألة القانونية. فإذا كان هذا القانون يـستلزم تقـديم السلطات المختصة شهادة ما، ولم يلتزم بذلك القاضي عند استعراضه أدلة ثبوت أو نفي الجنسية، أمكن اعتبار ذلك انتهاكاً للسيادة التشريعية للدولة التي تعد جنسيتها محلاً للمنازعة. وإذا كـان  قانون هذه الدولة يشترط لثبوت الجنسية محل النزاع أن تكون علاقة الزوجية المستند إليها ثابتـة بعقد موثق فلا يكون للقاضي أن يغض الطرف عن ذلك، مكتفياً في إثبات الجنسية بمجرد التحقق من قيام رابطة الزوجية. وإذا كان المشرع يستلزم للأخذ بحيازة الحالة حيث توافر عدد معين من الأجيال، فعلى القاضي الأخذ بهذا الدليل بالقيود التي فرضها القانون الأجنبي لبت الجنسية .

   غير أنه عندما يقوم القاضي الدولي أو المحكم بالتحقق من وجود الجنسية إنما يفعل ذلك عن طريق فحص الشهادات والمستندات المتسقة مع القانون الواجب التطبيق. فـإذا مـا اكتشف أنّ المدعي كان قد اكتسب الجنسية تطبيقا لقانون الدولة التي ادعى حمله صفتها الوطنية، وجـب أن يكون ذلك متطابقا هذه الحالة من الواقع. وهذه الحالة الأكثر اتساقا مع قواعد القانون الـدولي مع المنظمة لمادة الجنسية قد لا تثير صعوبة قانونية.

   وعلى نقيض ذلك فمما لا جدال فيه أن سلطات المحكم تتأكد عندما يثبت بالدليل أن الجنسية كانت قد اكتسبت بطريقة غير مشروعة تطبيقاً للحق المقرر في النظام القانوني لدولة الجنسية. فيلزم الانطلاق من مبدأ مفاده أن الجنسية حالة للشخص يمكن إثباتها باستخدام معطيـات ذات طبيعة شخصية أو موضوعية. وإذا كانت المعطيات الشخصية تسمح بإقامة الدليل على هذه الحالة فإنها ستتأتي بعد ذلك لتؤكد معطى موضوعياً قوامه وجود الجنسية، ومقتضاه أن يكـون نافعـاً الإصرار على وجودها. فالجنسية توجد في حد ذاتها، وما تدخل القرار الصادر عن الدولة بمنحها أو اكتسابها أو الاعتراف بها، إلا مكملاً لأمر موجود مسبق. وإذا كان منح الجنسية مـن جـانـب دولة ما لأحد الأفراد دون أن تكون هناك ثمة رابطة موضوعية بين هذا الشخص والدولة المانحة للجنسية يقع صحيحاً ويحتج به في الداخل، وفقاً لقانون الدولة المعنية، إلا أنه من حيـث نطـاق تطبيقه أو الاحتجاج به على المستوى الدولي فعادة ما يكون هذا الشأن مدعاة ومصدراً للمـشاكل القانونية.

    ففي مثل هذا الفرض وغيره تكون شهادة الجنسية وجواز السفر وشهادة الميلاد وغيرها من وسائل الإثبات المسخرة لدعم حالة من الواقع أداه لنفي أو ثبوت الجنسية وتخضع بالتبعية للسلطة التقديرية المقررة للمحاكم وهيئات التحكيم الدولية في تنظيم المسائل الاجرائية (المبحـث الأول) فبعد قيام الأطراف بعرض الأدلة على القاضي أو المحكـم الـدولي يقـوم الأخيـر بفحـصها وتمحيصها للتوصل الى تقييمها وبيان حجيتها بغية التوصل الى بناء عقيدته وإصدار حكمه فـي المنازعة حول الجنسية. (المبحث الثاني).

المبحث الأول- حرية المحاكم الدولية في تقدير الأدلة على الجنسية:

   يمكننا القول في النظام القانوني الوطني بوجود نوعين من الأدلة التي تخضع للتقيـيـم مـن جانب القاضي، يكمن الأول في الدليل القانوني الذي لا يمكن للقاضي أن يعطيه حجية أكثر مـن تلك التي منحه إياها القانون. فالقاضي لا يملك تجاه هذا النوع من الأدلة أية سلطة تقديرية في ما يخص قوته الثبوتية. أما الثاني فيعتمد على حرية القاضي وسلطته في تقدير حجيتها حيـث لا يكون للقانون، بل للمحكمة أن تحدد حجيتها حسب عقيدتها.

   أما في القانون الدولي فالإجماع يكاد ينعقد على أن المحاكم الدولية تتمتع بسلطة تقديريـة واسعة في ما يخص الأدلة المقدمة من الأطراف أو تلك التي تم التوصل إليهـا. فقـد ورد فـي مشروع تنظيم إجراءات التحكيم الدولية الصادر عن معهد القانون الدولي نص المادة 15 فقرة 5 الذي كان قد اقترح منح المحكمة الدولية الحق في أن "تستوي -في المنازعات المعروضة عليها- حسب سلطتها التقديرية في ما يتعلق بالمستندات المقدمة وبصفة عامة على تقدير وسائل الاثبات المقدمة من الأطراف". كما لم يتردد نموذج قواعد إجراءات التحكيم الذي تبناه مجلس القـانون الدولي الصادر عام 1958 النص في المادة 18 منه على أن "المحكمة تعد قاضـي تقـدير قـوة الأدلة" .

    وفي هذا السياق يعد مبدأ حرية المحاكم الدولية في تقدير الأدلة من المبادئ المستقر عليهـا في الأحكام الصادرة عن المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومحكمة العدل الدولية. فعلى الرغم مـن سكوت اللائحة الدائمة للمحكمة الدائمة للعدل الدولي ولمحكمة العدل الدولية عن ايراد نص خاص بتقدير الأدلة إلا أن هذا لا يعني أن هاتين المحكمتين لا تأخذان بالمبدأ المستقر عليه، بل علـى النقيض من ذلك. فقد كانت المادة 55 للائحة المحكمة الدائمة للعدل الدولية سنة 1922 رؤي حذفها قد صيغت بطريقة تعطي المحكمة سلطة تقدير "حجية مختلف وسائل الاثبات".

  ثم إن المحكمة الدائمة للعدل الدولي لم تتوان عن التأكيد على أن "إثارة الشك حول حرية المحكمة التقدير يعد انتهاكاً لكرامتها" .

   وفي قضية إمتيازات مافروماتيس concessions mavrommatis أمام المحكمة الدائمـة للعدل الدولي كانت وقائع الدعوى قد تلخصت في الطلب المقدم من الحكومة اليونانيـة للمحكمـة المشار إليها في 13 مايو 1924 ضد حكومة فلسطين والحكومة البريطانية صاحبة الوصاية عليها لبت الخلافات الناتجة من إنكار السلطات الأخيرة الاعتراف للسيد مافروماتيس اليوناني الجنسية بالحقوق الناتجة من عقود الامتياز التي أبرمها مع السلطات العثمانية للقيام بعدد مـن الأعمـال العامة بالأراضي الفلسطينية. ولقد أثيرت أمام المحكمة إشكالية تحديد جنسية صاحب الامتياز الذي كان قد تعاقد مع الامبراطورية العثمانية بصفته أحد المتمتعين بصفتها الوطنية حيـث أثيـر التساؤل عما إذا كان متمتعا بتلك الجنسية أو بالجنسية اليونانية. ولقد رأت المحكمة أنه كـان من اللازم أن يقوم السيد مافروماتيس الذي كان قد وصف في عقد الامتياز بأنه رعيـة عثمانيـة بإثبات جنسيته اليونانية. ولقد استنتج من مكاتبة سكرتير الشؤون القانونية لحكومـة فـلـسطين التي كانت تخص بصفة أساسية مسألة إثبات جنسيته اليونانية أن جنسية السيد موفروماتيس كانت قد خضعت للسلطات بلندن، وأنه في سبتمبر 1921 تم التقدم بلندن للجهات المعنية بعدة مستندات تثبت الجنسية اليونانية للسيد موفروماتيس”. ولم يتردد ممثل اليونان في تلك الدعوى عندما تـم الدفع بعدم قبول أحد المستندات الذي كان قد قدم كدليل للإثبات من جانب الحكومة البريطانية عن الرد على المحكمة "بأنه يعود إليكم بكل استقلال أن نتمسكوا أو أن تطرحوا جانباً كل مستند مقدم إليكم، وأن تمنحوه القوة القانونية أو المعنوية التي يمليها ضميركم وأنه بقبول هذا المـستند فإن المحكمة تحتفظ بسلطتها في تقدير الحجية التي توليها إياه.

  أما في القضية الخاصة بالمصالح الألمانيـة فـي أعـالي بولونيـا certains intérêts ,allemands en Haute-Silésie polonaise كانت وقائع المنازعة قد تعلقت بطلب تقـدمت به الحكومة اليونانية للمحكمة الدائمة للعدل الدولي بخصوص بعض المصالح الألمانية في سيليسيا العليا البولونية بعضها تعلق من جهة بقيام مندوب عن الحكومة البولونية بإدارة واستغلال مصنع للمازوت الساخن وبقيامه بتملك المنقولات وبراءات الاختراع الخاصة بالشركة التـي أكـدت المحكمة على حريتها في التقدير في ما يتعلق بإثبات الجنسية التي اعتبر أحد الأطراف أنهـا لا يمكن أن تثبت إلا بشهادة رسمية فالمحكمة الدولية تتمتع بالحرية الكاملة في تقدير الادعاءات التي أتاها الأطراف. وهي تعتبر أنه ما دام المبدأ قد بات مستقراً عليه وثابتاً في التاريخ المعتبـر la date critique على إقليم معترف به بواسطة معاهدة فرساي كجزء من دولة تشيكوسلوفاكيا ليستخلص كفاية من الحجج المقدمة بالمذكرة في هذا الشأن والتي لم يتم الاعتـراض عليهـا أو المنازعة فيها. كما ينتج من إعلان الأمير في أول يناير 1922، والذي بموجبه اتجه نحو الجنسية الألمانية، وفقاً للاتفاقية الألمانية التشيكوسلوفاكية.

   كذلك أمام محكمة العدل الدولية لم يتردد ممثل ألبانيا عن الدفع بحرية الإثبات فـي قـضية مضيق كورفو détroit de Corfou، مؤكداً أن المحكمة الدولية تعد ذات سيادة في تقدير وسائل الاثبات المقدمة إليها. بمعنى آخر لا يوجد في القانون الدولي العام نظام تشريعي للإثبات. فعقيدة القاضي هي التي يجب أن تحدد، وهي التي تعلو، وفي الحالة التي تكون فيها تلك فالعقيدة قد تـم اثباتها، فيمكننا القول إن الدليل قد تمت إقامته". كما لم يتوان القاض . كما لم يتوان القاضـي Guggenheim فـي رأيه المقرر بقضية نوتباوم عن التأكيد – بخصوص هذه المسألة – على أنـه مـن المـرخص للمحكمة الدولية من دون تحفظ أن تقوم بفحص الظروف التي في إطارها تم منح شهادة الجنسية، وأن تحتفظ لنفسها بالحق في التحقق من شروط الإعتراف الرسمي بالجنسية.

  ولا تقتصر الأسانيد الداعمة لحرية المحاكم الدولية في تقدير الأدلة على السوابق القضائية الدولية. فلقد ورد النص والتأكيد على هذا المبدأ في العديد من اللوائح التأسيسية لمحاكم التحكـيم الدولية كالمادة IV من لائحة مجلس التحكيم المختلط الأمريكي الباراغواي المحررة فـي 1859 والمادة الخامسة من الاتفاق المبرم بين بريطانيا وكولومبيا في 14 ديسمبر 1872 التـي نصت على أنه "لإمكانية الفصل في الدعوى فإن المحكمين يسمعون لكل منهم مستشاراً عن الأطـراف ويقومون بتقدير الأدلة التي يمكنهم تقديمها .

   كما ورد في اللائحة التأسيسية لمحكمة التحكيم المختلط الألمانية البلجيكية النص على أن "المحكمة تقدر قيمة وقوة الأدلة بكل حرية كذلك فقد نصت المـادة 14 مـن اللائحـة   الإجرائية لمجلس الصلح الإيطالي الفرنسي على أن "المجلس يتمتع في كل الحالات بحريـة تقدير الأدلة المقدمة من الأطراف وعندما يقدمون أدلة كتابية سابقة التكوين فإن تلك الأدلة تعلو فوق وسائل الإثبات الأخرى. كما ورد في لائحة مجلس الصلح المجري التشيكوسلوفاكي عام 1922 النص على أن محكمة التحكيم تقدر بحرية قيمة الأدلة وفقاً لـضميرها وللمعرفـة الجيدة.

   كما نصت المادة 19 من لائحة التحكيم والصلح للمنازعات الدولية التي تكون الدولة أحـد أطرافها، والمتبناة من جانب المحكمة الدائمة للتحكيم على أن المحكمة تكون حـرة فـي تقيـيم الأدلة. كما ورد في لائحة المحكمة الدائمة للتحكيم بين دولتين في 20 أكتوبر 1992، وفـي الفقرة السادسة من المادة 25 من اللائحة التخييرية للتحكيم في المنازعات بين طـرفين أحـدهما دولة واحدة بتاريخ 6 يوليه 1993 بأن "محكمة التحكيم تعد قاضياً للقبول وقاضياً لتقـدير الأدلـة وقاضياً لتقدير أهمية الأدلة المقدمة.." وفي السياق ذاته لم يفت لائحة تحكيم مركز واشـنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى المتعاقدة النص على مبـدأ حريـة المحكمة في تقدير وسائل الإثبات بصياغة مشابهة للنصوص المشار إليها.

   يستنتج مما سبق أن الأعمال والاتفاقات الدولية واللوائح التأسيسية لمحاكم التحكيم والأعمال التحضيرية للمحكمة الدائمة للعدل الدولي قد استقرت وأقرت للقضاء الدولي سلطة التمتع بحريـة واسعة عند ممارسة سلطته في تقدير الأدلة الخاضعة أو المقدمة إليه Le plus large pouvoir d'appréciation des preuves à elles soumises

  وتتمتع المحاكم الدولية ومن بينها محاكم التحكيم بسلطة واسعة فـي تقـدير الأدلـة يمكـن استخلاصه من الأحكام الصادرة عن الهيئات والمراكز التحكيمية الدولية. ففي حكم التحكـيم الصادر عن ملك اسبانيا في 23 ديسمبر 1906، حيث سبق أن أثيرت تلك المسألة مـن جانـب هندور انتهى إلى أنه "مما لا شك فيه أن تقدير المستندات ينبثق من سلطة المحكم التقديرية وهـو ما ينتج من واقع مفاده أن المحكم الدولي لا يخضع لأيـة قيـود عنـد البحـث عـن الحقيقـة المادية.. .

   ففي قضية مدينة Medina ضد كوستاريكا عام 1862 كان المحكم قد رفض الاعتـداد بمستند قضائي متضمن تجنس الشخص المعني، لأن هذا المستند كان قد تم الحصول عليه عـن طريق إخفاء الحقيقـة "par obseptio, c'est-d-dire par de la vérité". dissimulation وقد كان المدعون قد دفعوا رداً على ذلك بأنه ليس للمحكمة رفض مستنداتهم الخاصة بـالتجنس حتى ولو كانت باطلة أو منعدمة ما لم تكن قد استبعدت ابتداء من جانب المحكمة التي صـدرت عنها. وهو ما لم تقبل به المحكمة التحكيمية، حيث اعتبرت أن الرقابة التي يمارسها القاض المحكم الدولي تعبر عن عرفان " بالسيادة الإقليمية لأنه لا يمكن إلا أن يكون بمقصد المشرع أن أو يمضي – دون عقاب عند الالتفاف على قوانينه .

    وفي التحكيم الصادر بقضية برتيناتي Bertinatti يبدو أنه كان قد تضمن أسـبابا بـررت القيام برقابة أكثر اتساعاً خاصة في ما يتعلق بمعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة الامريكية قـد قامت بقبول التجنس وفقاً للشروط المقررة في قوانينها". غير أن هذا السبب لا يؤسـس حـكـم التحكيم، لأن هذا الحكم لم يتحقق مما إذا كان منح الجنسية يتسق من عدمه مع القوانين الوطنية. ولقد كان من بين أسباب رفض المحكم الأخذ في الحسبان للحكم الصادر بالتجنس المستند إليه – أن الحاصل عليه والمنتفع به كان قد أخفى الحقيقة عن السلطات المحلية المختصة بالولايـات المتحدة الأمريكية الأمر الذي استنتج منه أن الحجية القاطعة لهذا المستند في القانون الدولي كانت قـد بأتـت معيبـة La valeur probante de ce document, au regard du droit international, est ainsi viciée

    وفي قضية فليوتي Flutie فإن أسباب حكم التحكيم كانت قد عرضت من جانب ممثـل الولايات المتحدة الأمريكية أمام مجلس التحكيم المختلط الذي رفـض اعتبـار شـهادة التجـنس الصادرة عن محكمة اتحادية أمريكية من شأنها إلزام الولايات المتحدة والمجلس. ولقـد اعتبـر مجلس الصلح أن المدعي لم يكن قد أقام فعلاً في الولايات المتحدة خلال الفترة الزمنية المتطلبة، ووفقاً للمفهوم المعتبر في القانون الأمريكي. وقد انتهي المجلس نتيجة ذلك – إلـى أنـه وحيـث استبان أن "شهادة الجنسية كانت قد منحت بطريقة غير صحيحة ، فإن المدعين لا يكون لهـم  - بحسب المجلس صفة مواطني الولايات المتحدة الأمريكية.

   وفي قضايا بيليتيي ولازار pelletier et lazare انتهى المحكم إلى التقرير بقبـول كافـة المستندات المقدمة بطريقة سليمة، ولكنه لن يمنحها إلا الحجية التي تبدو مستحقة لهـا . وفـي قضية فابياني fabiani أكد المحكم على أن يكون للمحكمة فيما يتعلق بصحة المستندات المقدمة إليها والتي لم يتم الاعتراض عليها أن "تقدر بحرية.... حجيتها وقوتها الالزامية.. وفـي قضية جورج بينسون Georges Pinson انتهى مجلس الصلح الفرنسي المكسيكي إلى التأكيـد على حريته المطلقة في تقدير الأدلة كمبدأ أساسي للإجراءات في الإثبات، وبصفة خاصة سلطته التقديرية في التحقق من وتقييم الأدلة"، دون أن تكون مقيدة في ذلك بأية قيد منصوص عليه فـي النصوص التشريعية بالمكسيك ". كذلك وفي تحكيم فليجنهيمر انتهت محكمة التحكيم إلى أنه من المنطقي ألا ترتبط محكمة التحكيم بأي نظام قانوني وطني للإثبات، بل ليترك لهـا الحريـة التامة في تقدير الأدلة المنتجة وفقا للظروف .

   أما في المنازعات الدولية الخاضعة للتحكيم أمام مركز واشنطن فقد كان المشروع التمهيدي لاتفاقية واشنطن قد تضمن نصا يقترح استلزام صدور مكاتبة من وزير الشؤون الخارجية بالدولة المتنازع في جنسيتها تفيد ما إذا كان المستثمر الذي يدعي الانتماء إليها يعتبر متمتعا بجنسيتها من عدمه معتبراً أن تلك الكاتبة تقيم دليلاً قاطعاً على الجنسية.

   غير أن هذا النص لم يتم اعتماده لعدم تأييده من لجنة الخبراء القانونيين الممثلـيـن للـدول الأعضاء اعتباراً لما يؤدي إليه من ترك الأمر في يد الدولة المدعى التمتع بجنسيتها، والتـي غالباً ما ستقف الى جانب المستثمر. أضف إلى ذلك أن هذا المنطق يؤدي إلى تشجيع العديد مـن الدول على منح جنسيتها مجاملة للمستثمرين بهدف تمكينهم من مخاصمة الدول التـي يتمتعـون بجنسيتها الفعلية، ومن الحد من قدرة المستثمر على استخدام طرق أثبات الجنسية الأخـرى فـي مواجهة الدولة التي قد ترفض منحه تلك الشهادة. فقد يحدث أن تتخلّف الدولة المعنيـة عـن إعطاء تلك الشهادة للمستثمر نظراً للطبيعة القانونية المعقدة لرابطة الجنسية وما يبذل من مجهود للتأكد من توافرها وما يؤدي إليه من استحالة الوصول في بعض الحالات إلى قرار حاسم حـول ثبوتها أو انتفائها.

   كما أن هذه الشهادة – بفرض صدورها – تفيد انتماء المستثمر للدولة التي أصـدرتها هـي شهادة مو اطنة وهذا أمر داخلي أكثر من أن يكون شهادة جنسية لأن الجنسية ذات تداعيات وآثار. قانونية دولية .

  يستفاد مما تقدم عدم إمكان قيام تلك الشهادة بالوفاء بالغرض المطلوب منها وهو ما يجعـل تطلبها غير منتج في هذا الخصوص. كما أن تحديد جنسية المستثمر والقول بانتمائه لدولـة مـا سيؤثر في تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع بينه وبين دولة الاستضافة . ثم ألا يمكن اعتبار تحديد وزير الشؤون الخارجية بوصفه الجهة المختصة بإصدار شهادة الجنسية من قبيـل الخطأ في القانون، لأنها كثيرة هي الدول التي تمنح إدارات أخرى كوزارة الداخلية سلطة مـنح الجنسية وبالتبعية سلطة إصدار مثل تلك المستندات. وقد ذهب العديد من الخبراء القانونيين إلـى في أي حال فإن شهادة الجنسية المقدمة لن تكون لها ثمة حجية مطلقة، ولكنها مجرد قرينـة بسيطة قابلة لإثبات العكس .

   لذلك كله انتهى إلى عدم وجوب اعتبار التحقق من جنسية المستثمر رهناً للإرادة المنفـردة للدولة مانحة الشهادة ولكن ذلك لا يمنع من التقرير بأنه إذا ما قام المستثمر بتقديم شهادة الجنسية الصادرة من وزارة الشؤون الخارجية التي تفيد تمتعه بجنسية دولة أخرى متعاقدة، فسوف تكون هذه الشهادة دليلا على ما جاء فيها من بيانات .

   نخلص مما سبق إلى أن ما جاء في المسودة الأولية لاتفاقية واشنطن بخـصوص تقريـر الاختصاص لمحكمة العدل الدولية للفصل في النزاع الدائر حول جنسية المستثمر لم يلق قبـولا، وأن الأمر قد انتهى إلى إلغاء النص الذي كان يستلزم قيام المستثمر بتقديم شهادة الجنسية حيـث ظهر النص النهائي للاتفاقية خالياً منهما، مؤكداً على أن لهيئات تحكيم مركز واشنطن وللجـان الطعن الفردي سلطة الفصل في ما يثور من منازعات منصبة على اختصاصها بما قد يعـرض عليها من منازعات، خاصة باستثمارات أجنبية، ومن بين ذلك ما قد يحدث من منازعة في جنسية المستثمر طالب التحكيم بالتطبيق للمادة 2/25 من الاتفاقية.

   والأدلة على الجنسية يجب أن يكون من شأنها افتراض وجود الجنسية المدعى بها. وانطلاقاً من ذلك يكون على الدولة التي تنازع في شأن وجود أو صحة أو فاعلية الجنسية المتنازع فيها أن تقيم الدليل على عكس ما أتى به المستثمر. ومن غير الممكن لدولة ما أن ترفض أدلة الجنسية التي استبان منها صدورها عن دولة أجنبية، إلا إذا كان الأمر متعلقاً بمستندات مزورة. ولذا فمن المتصور أن تكون الحجج التي ستعتمد عليها الدولة المدعى عليها قائمة على مسألة مطابقة الأدلة المقدمة من جانب المتنازع في جنسيته للحقيقة أي الطبيعة غير السليمة للمستندات المقدمة بـشأن الجنسية المتنازع فيها.

   ويمكن لهذه الدولة أيضاً أن تعترض على صحة الدليل من حيث طريقة الحصول عليه: كأن تم الحصول على المستندات المؤيدة للمدعى بطريق الغش أو بطريقة باطلة. وليس للدولة أن تقيم دفعها المنكر للتمتع بجنسية ما على مجرد النعي على أهمية المستندات المقدمة، حيث أن ذلك لا يعد من المجالات المحجوزة للمحكم، والتي يجب أن يتدخل لأجلها. وأهم ما يبرر سلطة المحكـم ما يمكن التأكيد عليه من أنه من اللحظة التي نقبل فيها بأن جنسية المستثمر تعتبر شرطاً لقبـول طلب التحكيم أي شرطاً للاختصاص الشخصي للمركز. فلا يمكن إلا أن يخـضع لاختـصاص المحكم الفصل في كل ما يطرأ عليها أمامه من نزاع بين الأطراف. وهذا الذي نقول به سبق أن قالت بمثله المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية القروض البرازيلية، وهو ما يمكن الأخذ به أو القياس عليه. فالمحكمة قررت أنه من الممكن أن يكون القاضي الدولي (وفـي حالتنـا المحكـم) مضطراً التعرف الى قواعد القانون الداخلي المعتبر محلا للتطبيق: وهو ما يمكن أن يكون إمـا بمساعدة الأدلة المقدمة إليه من الأطراف، وإما من خلال كل وسائل البحث التي تجدها المحكمة مناسبة للفصل في المسألة محل النزاع (الاختصاص)" . وإذا كان النظام القانوني للدولـة هـو الذي يحدد حالة الشخص، فالقاضي الدولي أو المحكم هو من يتولى استنتاجه وتطويع أثاره على المستوى الدولي. ولأن مثل هذا التقرير قد يشوبه عدم الصحة فمن الضروري منح القاضـي أو المحكم الدولي سلطات تقدير وتقييم الأدلة.137 لذا يكون لأي من الأخيرين - عند التصدي للمـشكلة أن يذهب إلى ما وراء المستندات والأدلة المقدمة حتى بعـد الانتهـاء مـن مطابقتهـا للأصـل للوقوف على ما إذا كانت الجنسية المدعى بها والمثبتة بالدليل هي تلك الواجب التمسك بها فـي إطار حسم المنازعات للتأكد من امكان الاحتجاج بها. والدليل على الجنسية المعتبـرة يمكـن الوقوف عليه بالرجوع للسوابق التحكيمية لمركز واشنطن وغيره من مجالس الـصلح وهيئـات التحكيم التي تعرضت باستفاضة وبأحكام مسهبة لهذه المشكلة الفنية. والهدف الأساسـي لرقابـة القاضي أو المحكم الدولي على الجنسية يكمن في الرغبة في تجنب إعطاء أثر أو قـوة قانونيـة لجنسيات معيبة بالغش أو لجنسيات وهمية أو جنسيات متخذة كواجهة. فالمبتغى ألا يعتـد أمـام المحاكم الدولية إلا بالجنسية الحقيقية دون سواها لإنتاج الآثار المعتادة للجنسية، خاصة وأنه فـي هذا الخصوص لم يتوان الفقه والقضاء عن بذل الكثير من الجهد الذي أسفر عـن وجـود مـن القواعد ما يحول دون التحايل أو الغش نحو القانون والواقع .

   جدير بالذكر الإشارة الى عنصر أكثر رسمية في الإثبات كان قـد ورد بمناسـبة الأعمـال التحضيرية لاتفاقية واشنطن لسنة 1965 الخاصة بمركز تحكيم واشنطن لتـسوية منازعـات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى المتعاقدة، حيث كان قـد أقتـرح "التأكيـد الكتـابي للجنسية موقعة من وزير الخارجية أو ممن يكون تحت سلطانه (مفوض عنه) التابع للدولة التـي تم الادعاء بالتمتع بجنسيتها" . ومثل هذا المقترح كان من شأنه أن يكون دليلاً قاطعـاً فـي الإثبات، ولكن قابلية الحالة للتحقق بدت مشكوكاً فيها ويصعب الاستجابة لها لما بدا من اخـتلاف بشأن قبولها من الوجهة العملية. وهذا ما دعا بعض المفاوضين إلى إثارة شكوكهم بأن هـذه السلطة ربما تكون هي التي كانت مختصة بإصدار شهادة الجنسية، وبالبعض الآخر إلى القـول بأن اتباع مثل هذا الأمر من شأنه أن يؤدي بعدد من الدول إلى منح جنسياتها على سبيل المجاملة في الوقت الذي انتهى فيه آخرون إلى أنه من الممكن أن تكون هناك استحالة خاصـة بـبعض الأشخاص في إمكان التوصل لمثل هذه الشهادة. ولأن تلك الملاحظات بدت منطقية فـلا تـزال تحظى بقوتها وقيمتها العملية. ولذلك فلم يكن مستغرباً أن يقرر مديرو البنك الدولي بالاتفـاق أن "هذه الشهادة لا ترقى لأن تكون دليلاً قاطعاً على جنسية الشخص" وأنها لا تعـدو أن تكـون قرينة بسيطة عليها une preuve prima facie. لهذا السبب اقتـرح الفقيه Schreuer أن "تعامل شهادة الجنسية (...) كجزء من "الوثائق المتعلقة بالأدلة الأخرى" التي تدرسها المحكمـة وفقا للفقرة 43.

  وهذه المادة 43 من اتفاقية واشنطن تتعلق، وبصفة خاصة الفقرة (a) منها، بسلطة المحكمة في أن "تطلب من الأطراف تقديم كل المستندات التي يحوزونها أو أية وسائل أخرى للإثبـات".

    ويجب علينا الإشارة – إلى جانب مما قال به هذا الرأي من أن التوافق بين الدولـة والمـستثمر الذي من شأنه الاعتراف بجنسية المستثمر الأجنبية يكون مفيداً، ولكن ليس مستلزماً كدليل. وهذا المعنى ما قالت به الشروط النموذجية لمركز تحكيم واشنطن، خاصة الشرط السادس منها الـذي ورد فيه أن مركز تحكيم واشنطن يؤكد على أن للأطراف أن يدرجوا في عقد الاستثمار المبـرم بينهم شرطاً بمقتضاه يحددون مسبقاً أن المستثمر يعتبر رعية من رعايا دولة أخرى متعاقــدة، وبالتالي يكون مثل هذا الشرط حاسماً لكل نزاع محتمل بشأن جنسية المستثمر عند اللجوء الـى مركز واشنطن. فمثل هذا الشرط يقيم اعترافاً بالجنسية الأجنبية للمستثمر مـن جانـب دولـة الاستضافة ويمكن الاحتجاج به عليها. والاعتراف بالجنسية يفترض تقديرا وتقييما متطابقا مع ما ورد في الشرط المقرر بالمعاهدة، ويتم ذلك بواسطة المحكم الذي يحظى بسلطة تقديرية في اتخاذ القرار في إطار نصوص اتفاقية واشنطن. ويبرر ذلك أن الجنسية تعبر عن معطـى موضـوعي une donnée objective يجب أن يقيم عند القيام بالمرحلة الثانية من الرقابة واجبة التحقق في إطار اتفاقية واشنطن – فالمحكم هو الذي يقرر في نهاية الأمر إمكان الاحتجاج بها من عدمـه وهو من ينتهي لترتيب آثار الحالة الشخصية المقررة للمستثمر من جانب الدولة المانحة للجنسية أم لا، وهو الأمر الذي يمر من خلال تقدير الدليل المقدم من جانب المدعي إلى محكمي مركـز واشنطن المثار أمامهم النزاع. فالمحكمون ولكن ليس فقط أولئك التـابعون لمركـز تحكـيم واشنطن، ليس لهم أن يحرموا أنفسهم من استثمار هذه السلطة إعلاء للقانون وضماناً لمواجهـة الغش واحتراما لحسن النية.

   تطبيقا لتلك السلطة التقديرية استخلصت هيئة تحكيم مركز واشنطن بقضية فرنك عـارف ضد مولدافيا من دفاع الأطراف أنها باتت مقتنعة بتمتع عارف بالصفة الأجنبية اللازمة للمطالبة بالحماية الإجرائية: فتوافق الخصوم على أن المدعي منح الجنسية الفرنسية بموجـب المرسـوم الصادر في 10 مارس 2005 وقبول المدعى عليها بجلسة الاستماع بتكييف المرسـوم بالقـانون المانح للجنسية، وفقاً للقانون الفرنسي، بدلاً من شهادة الجنسية، يبرز تناقضاً مع موقفها الـسابق بشأن ذات المرسوم. الأمر الذي يقيم – وفق عقيدة هيئة التحكيم – دليلاً قوياً علـى أن عـارف ـ حصل على الجنسية الفرنسية، وفقا للقانون الفرنسي، خاصة في ظل ما قدمه للمحكمة من جواز سفره الفرنسي وشهادة تجنسه بالجنسية الفرنسية.

المبحث الثاني

تقدير حجية الأدلة على الجنسية بالرجوع الى القوانين الوطنية في ما لا يخالف المبادئ الدولية

  الأصل أنه عندما يكون سند الإثبات معروفاً وموثوقاً به فمن شأن ذلك أن يضع مـصداقيته أمام القاضي والأطراف في مرتبة عالية. وفي هذا المعنى تعتبر الدولة شخـصاً موثوقـاً بـه والمستندات التي تصدر عن أجهزتها وتوجه للإثبات يفترض صحتها وسلامتها وبالتبعية حجيتها. فشهادات الجنسية والمواثيق والمستندات الخاصة تلعب - حسبما نعلم - دوراً أساسياً في قبـول الدعاوى المرفوعة من الأشخاص أمام المحاكم الدولية في ما يخص طلبات الحماية الدبلوماسية أو دعاوى التحكيم المرفوعة للمطالبة بالتعويض عن الأضرار التي أصابت المستثمرين الأجانـب تطبيقاً للعقود والاتفاقات الدولية. ولإثبات جنسية الأشخاص الذين تسعى الدول لتشملهم بحمايتهـا الدبلوماسية فعادة ما يتم الاستناد إلى عدد من النصوص والأحكام القضائية والقرارات الوطنيـة. كما تتم عادة المبادرة بتقديم شهادات الجنسية وغيرها من المستندات الصادرة عن أجهزة، ومـن بينها الأجهزة القنصلية، وفي ظل تلك الملابسات يثور التساؤل عن حجية تلك النصوص والأحكام أمام المحاكم الدولية؟ كما يثور التساؤل عن حجية المستندات الرسمية المشار إليها وعـن كيفيـة الإستيثاق من قوتها القانونية؟ وما هو القانون الواجب الرجوع إليه للتحقـق مـن صـحـة تلـك المستندات ومن حجيتها القانونية؟ لحسن الإجابة عن ذلك يلزم أن نستعرض موقـف المحـاكم الدولية عند استدعاء النصوص الوطنية أمام المحاكم الدولية (المطلب الأول) وعند لجوء الأطراف - دعماً لمراكزهم – للشهادات والمستندات الرسمية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: استدعاء النصوص الوطنية لإثبات الجنسية أمام المحاكم الدولية:

    في إطار عملية التحقق من الجنسية المتنازع فيها عادة ما تكون المحاكم الدولية مدعوة لبـت ذلك في ضوء النصوص والأحكام القضائية الوطنية. عندئذ فالمستقر عليه أمام تلك المحاكم لضمان حسن تسيير العدالة عدم استلزام أن تتوافر بالنصوص القانونية الوطنية المستدعاة للتطبيق أمامهـا ذات القيود الشكلية واجبة الأخذ بعين الاعتبار عند تعلق الحال بالنصوص الدولية. فيكفـي لقبـول القانون الوطني والاحتجاج به أمام المحاكم الدولية أن يثبت توصيفه الصحيح ومحتواه لإمكان النظر في الأخذ به لتسوية المنازعات المعروضة عليها، ومن بينها تلك الخاصة بالجنسية.

    تطبيقاً لذلك كان التساؤل قد أثير أمام محكمة العدل الدولية بمناسبة قضية التأميمات الإيرانية حول ما إذا كان إعلان إيران قبولها بالقضاء الملزم للمحكمة الدوليـة يعنـي أن تـستبعد مـن اختصاص تلك المحكمة المنازعات الخاصة بتفسير وتطبيق المعاهدات السابقة علـى الإعـلان المشار إليه، والذي كان قد صدر بقانون تم التصويت عليه ونشره بالجريدة الرسمية عام 1933؟ ولعل ما تسبب بإثارة تلك الإشكالية أن الحكومة البريطانية كانت قد دفعت برفض تطبيق القانون الإيراني الخاص بالتصديق على إعلان القبول بالقضاء الملزم للمحكمة الدائمـة للعـدل الـدولي تأسيساً على أنه كان يعول على مستند خاص محرر فقط باللغة الفارسية، وأنه لم يكن قد تم إيداع نسخة منه لا لدى عصبة الأمم ولا أية دولة أخرى من الدول التي قيدت الإعلانات.

  غير أن المحكمة الدولية لم تعر الحجة التي أثارتها بريطانيا أثراً قانونياً، حيث أكدت علـى أنها لا ترى سبباً قانونياً يمنعها من التمسك بمثل هذا العنصر من عناصر الإثبات. فالقانون كـان قد سبق إعلانه بالجريدة الرسمية للقوانين الإيرانية بعد تمام التـصويت والتـصديق عليـه فـي يناير 1933. معنى ذلك أن هذا القانون المعترض على تطبيقه من جانب الحكومة البريطانية كان متاحاً للتحقق من وجوده ومن محتواه من جانب كافة الدول الأخرى طوال ما يقـارب العـشرين عاماً .

    والمحاكم الدولية عند تقصيها النصوص الوطنية المستدعاة بـشأن الجنسية لا تفـرض تفسيراً لها ولا تمارس دوراً رقابياً عليها بقدر ما تسعى للتحقق منها للوقوف على صحة التمتع بالجنسية. ففي الحكم الصادر عن محكمة التحكيم المختلط في 22 ديسمبر 1924 لـم تـتـوان المحكمة عن التأكيد على أنه يجب عليها أن "تبحث عما إذا كان القانون الروماني قـد اسـتطاع منح المدعي الصفة التي اعترفت له بها الحكومة الرومانية. فسلطة إعادة النظ فـي تطبيـق القانون الروماني وحرية التفسير التي يجب الإقرار بها للقاضي الوطني يلزم أن تجرى بطريقـة عادلة تبعاً لروح النص ومع الاحتفاظ بكامل الاحترام المكفول له ". فالمحكمة الدولية لا يمكنها أن تفرض تفسيراً للقانون الداخلي، إذ يجب أن تعترف للسلطات الرومانية في تطبيق قانونها وفي تقدير وتقييم ظروف الحال والصلاحيات التي تتمتع بهـا المحـاكم وبـصفة خاصـة الأجهـزة الإدارية. فالمحاكم الدولية لا تعترف لنفسها بالحق في تفسير القانون الداخلي أو فـي تطبيقـه بوصفها قاضياً للنقض. فهي تنظر فقط في ما إذا كان الحكم أو القرار المانح للجنسية قـد اتخـذ بحسن نية أو كان مبنياً على مجاملة للترخيص للشخص المعني أو السماح له بالتحايل أو الالتفاف على قواعد الاختصاص الدولي بمنازعات الجنسية. فتلك المحاكم التي تؤكد على سلطتها فـي تقدير الأدلة على الجنسية لم تتجاوز ذلك بالاعتراف لنفسها بسلطة رقابة تطبيق القانون الـداخلي للجنسية. فليس من اختصاص المحاكم الدولية تقصي الخطأ في تطبيق هذا القانون الذي يعـد وحده قادرا على أن يؤدي إلى بطلان اكتساب الجنسية. ومن المستحيل عملاً – بالنسبة الى المحاكم – "الاعتراف بأسباب بطلان القانون الوطني في مسائل الجنسية."

   ومع ذلك فللمحاكم الدولية سلطة البحث عما إذا كانت الجنسية المتنازع فيها قـد منـحـت أو اكتسبت بطريقة سليمة. وهو أمر قابل للتحقيق والمناقشة، خاصة ما لم ترد بشأنها أحكام قضائية أثناء بت الإجراءات الدولية. وهذا الذي تقرر لا يخرج – بحسب الممارسـات الدوليـة المتبعـة عالمياً - عن أن يكون مسألة خاضعة لتقدير أي قاض دولي أو وطني ما دام قد أحيل إليه بيـان مدى صحة التمتع بالجنسية. وللتوصل لذلك يكون للمحكمة الدولية ألا تلجأ الى القرار الإداري أو شبه القضائي المانح أو المكسب للجنسية، وأن تقوم بتعريف الأخيرة وبفحص الأدلة المتعلقـة بها بالتطبيق للقانون الداخلي للدولة المعنية.

   ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن المحاكم الدولية تكون ملتزمة كلية إعمال القوانين الوطنية عند تحققها من وتحقيقها في الأدلة على الجنسية. فعلى أي محكمة دولية – وهذا من خصوصياتها – "واجب تحديد جنسية المدعين بالطريقة التي يبين لها منها أن هذه الجنسية قد باتت مؤكدة بحسب المبدأ وبغض البصر عما يقرره القانون الوطني لكل مدع. والنصوص الوطنية لا تكون بالنـسبة لها غير ذات قيمة ولكنها لا تكون ملتزمة أو مقيدة بها، حيث يمكن للمحكمة أن تـضـع شـروطاً أكثر تشدداً من تلك التي نص عليها القانون الوطني. فعلى سبيل المثال، ولإمكان كشف النقـاب عن حالات التجنس التي حصل عليها بالغش in fraudem legis، ولكن يمكنها أيضاً الاكتفـاء بشروط أقل تشدداً في حالات يبدو لها منها بكل عقلانية أنه ليس ضرورياً – لتكوين عقيدتها – أن تقوم بتفعيل مختلف الأدلة الرسمية.. وليس على تلك المحاكم التقيد " بأي نظام قـانوني وطني للإثبات، ذلك أن لها "الحرية التامة في تقدير الأدلة المقدمة إليها بحسب الظروف .

المطلب الثاني: حجية المستندات الرسمية للجنسية أمام المحاكم الدولية:

  أثبتت الممارسات العملية مراعاة المحاكم الدولية للقاعدة التي تخضع للتحقـق مـن صـحة المستندات الوطنية المقدمة أمامها للإثبات وفقا للقانون الوطني للدولة مصدرة تلـك المـستندات وهي وامتدادها لتـشمل كافـة التـصرفات القانونيـة الداخليـة تطبيقـاً للمبـدأ المتعـارف عليـه locus regit_actum في القانون الدولي. فتلك القاعدة تعد واجبة التطبيـق علـى المـستندات الداخلية للدولة كشهادات الجنسية الممنوحة من الدولة الراغبة في ممارسة حمايتها الدبلوماسـية على أشخاص معينة تعرضت من وجهة نظرها حقوقهم لانتهاكات من جانب دولـة أخـرى. بطريق القياس تكون واجبة التطبيق أمام محاكم التحكيم عندما تثار أمام الأخيرة منازعـات خاصة بجنسية الشخص الذي ولج هذا الطريق للنظر في ما إذا كان أجنبياً عن الدولة المتنازع في جنسيتها بطريقة تؤهله أو تحرمه من أحقية تسوية منازعاته معها أمام الهيئات التحكيمية الدولية. وما من شك في أن صحة تلك المستندات الخاصة بالجنسية يتم تقديره وفقاً لقوانين الدولـة التـي أصدرتها. ففي الحكم الصادر عن مجلس التحكيم المختلط الذي تم انشاؤه بين الولايات المتحدة وكوستاريكا في عام 1862 وبخصوص شهادة تجنس كان قد تم الاستناد إليها انتهت هيئة التحكيم إلى أنه في كلتا الحالتين لا يمكن أن يكون لشهادة الجنسية عند الإثبات أمام المجالس الدولية قيمة أكثر من كونها عنصراً من عناصر الإثبات.

   وفي قضية توماس وارنير انتهى مجلس التصالح الأمريكي المكسيكي عـام 1869 إلـى رفض شهادة الجنسية المكسيكية للمدعي تأسيساً على أنها كانت قد حررت من جانب سلطة دنيـا ودون حلف لليمين، وأنه بالإضافة الى ذلك فالوقائع التي أقيم عليها اكتساب الجنسية لم تكن لتتسق والشروط المقررة لذلك بالقانون المكسيكي الواجب التطبيق. وعلى النقيض من ذلك فقد سـبق لمجلس التحكيم المختلط الألماني الفنزويلي في 1903 أن انتهى لرفض الدفع بعدم قبول شـهادة الجنسية مقدمة من الجهات القنصلية استنادا الى عدم الاختصاص المدعى به للقناصل بصفة عامة في أن يصدروا مثل تلك المستندات الرسمية: فمن المعروف جيداً ممارسة القناصـل المـستقرة للتصديق على نسخ من الوثائق والاتفاقات الخاصة.

   وفي قضية guano chili-France انتهى الحكم الصادر عن مجلس التحكيم المختلط فـي 5 يولية 1901 إلى أنه يجب أن يعتبر حاسماً في ما يتعلق بمسائل الجنسية القانون الذي في ظله تم تشكيل الشخص الاعتباري أو الشركة أو المؤسسة والذي ترتبط به أهليتها القانونيـة، والـذي عادة ما يكون قانون المركز الرئيسي .

    وفي قضية جورج بينسون ضد الحكومة المكسيكية، وبعد أن لاحظ المحكم المرجح الفوارق بين قواعد اكتساب وفقد وإثبات الجنسية الفرنسية المتنازع فيها، أضاف أنه من دواعي الأمور ألاّ يكون لأي قانون آخر بخلاف قانون دولة المدعي أن يحدد الشروط التي تتعلق بحيـازة الحالـة لرعية الدولة المتنازع بشأن جنسيتها. وهذه الحقيقة غير المتنازع فيها لا تعني أن الأفعال التـي يجب أن تطبق عليها النصوص القانونية الوطنية في اكتساب الجنسية وفقدانها لا يمكـن إقامـة الدليل عليها بوسائل إثبات أخرى بخلاف تلك المقررة على وجه الاحتمال للنظام القانوني الداخلي بالقانون الوطني. ثم انتهى المحكم بعد ذلك إلى أن "شهادة الجنسية كسند للرعويـة الفرنسية الصادرة عن القنصليات الفرنسية بالمكسيك وبالتطابق مع القانون المنظم لتلك المسألة يحظى في عقيدتي بقوة قاطعة ont pour moi_une force probante وأقبل بها على هذا النحو كأدلـة كافية على الإطلاق لإقرار عقيدتي asseoire ma conviction على أن حامل المـستند يعـدّ متمتعا بالجنسية الفرنسية ما لم يثبت عكس ذلك في الحالات الإستثنائية" .

  وبقضية carlos Klemp اعتبر مجلس الصلح أن تلك المستندات لا تصلح لأن تكون دلـيـلاً على الجنسية إلا إذا كانت كذلك بالقانون الداخلي للدولة المعنية. فالممارسات الحديثة تؤكـد أنّ المحاكم الدولية تستند بإراداتها إلى شهادات الجنسية الصادرة عن الدول التـي تطالـب بالحمايـة الدبلوماسية. تطبيقاً لذلك انتهت محكمة التحكيم الإيرانية الامريكية إلى الاعتراف بصحة شـهادات التجنس التي قدمها إليها عدد من المدعين بالتعويض عن الأضرار التـي أصـابتهم مـن جـراء الخلافات بين الدولتين عقب نشوب الثورة الإسلامية بإيران. ولقد كانت محكمة التحك الإيرانيـة الأمريكية تستلزم من المطالبين أمامها بالتعويض من أي من الدولتين المشار إليهما التقدم، بالإضافة الى الأوراق الأخرى بالمستندات والشهادات الدالة على الجنسية الصادرة عـن سـلطات الدولـة والمشكلة أو المختصة بحسب قوانين تلك الدولة بإصدار مثل تلك الأوراق الرسمية. فعنـدما نكون في حضرة مستندات داخلية محضة يتم فحص صلاحيتها وفقا لنـصوص القـانـون الـوطني للدولة التي أصدرتها. وهذا الذي نقرر يصلح للعمل به سواء تعلق الحال بنـصوص تــشريعيه أو بقواعد لائحية أو بمستندات رسمية صادرة عن الدولة المعنية أو عن أي من أجهزتها الإدارية.

  غير أنه عندما يقوم المحكم بالتحقق من وجود الجنسية إنما يفعل ذلك عن طريـق فـحـص الشهادات والمستندات الأخرى المتسقة مع القانون الواجب التطبيق. فإذا ما اكتشف أن المـدعي كان قد اكتسب الجنسية تطبيقا لقانون الدولة التي ادعى حمله صفتها الوطنية وجـب أن يكـون ذلك منسقاً هذه الحالة من الواقع والتي يجب أن تبدو الأكثر تطابقا مع قواعد القانون الـدولي - المنظمة للجنسية . فإذا كان النظام القانوني للدولة هو الذي يحدد حالـة الـشخص الطبيع فالقاضي الدولي أو المحكم هو من يقوم باستنتاجه وتسخير أو تطويـع آثـاره علـى المـستوى الدولي. وانطلاقاً من أن مثل هذا التقرير قد يكون عرضة لعدم الصحة فقد وجب منح المحكمـة الدولية المختصة صلاحية تقدير وتقييم الأدلة المادية والقانونيـة. فللمحكمـة الدوليـة عنـد التعرض لمنازعات الجنسية أن تذهب إلى ما وراء مستندات الأدلة المقدمة حتى بعـد الانتهـاء من مطابقتها للأصل للوقوف على ما إذا كانت الجنسية المدعى بها والمثبتة بالـدليل الواجب التمسك بها لحسم المنازعات وما إذا كان ممكناً الاحتجاج بها في المنازعـات الدوليـة. وإذا كان على المحكمة الدولية أو هيئة التحكيم قبول شهادات الجنسية أو جـواز السفر كأدلـة مثبتة للجنسية فإن عليها الاستيثاق من عدم انتهاك الدولة التي أصدرت تلك الأدلـة أو حررتهـا للقانون الدولي، كأن تكون مشوبة بالتحايل أو بالصورية التي تباعد بين الجنسية المتنـازع فيهـا وبين الفاعلية.

   ورقابة المحاكم الدولية للأدلة على الجنسية لا حدود لها سـواء تعلـق الأمـر بالـشكل أو بالموضوع. فلتلك المحاكم أن تطرح جانباً المستندات الرسمية التي تصدر صحيحة مـن حيـث الشكل متى ثبت عدم اتساقها مع الشروط الموضوعية المقررة في قانون وقضاء الدولة المـدعى التمتع بجنسيتها أو مع المعاهدات الدولية التي أبرمتها. فللمحاكم الدولية أن تحدد ما إذا كانـت الشهادات التي يعتد بفحواها في القانون الوطني للدولة التي أصدرتها يمكن أن يتم فحصها مـن جديد وبحسب الحاجة إبعادها من جانب الأجهزة الدولية عندما تكون نتيجة غـش أو كانـت قـد صدرت بطريق المجاملة أو كان اكتسابها قد صدر معيبا بعيب خطير أو إذا كانت متعارضة مع نصوص اتفاقات دولية منظمة لمسائل الجنسية في العلاقات المبرمة مع الدولة الوطنية المزعومة أو حتى إذا كانت تتناقض والمبادئ العامة للقانون الدولي للجنسية" .

   ومراعاة مبادئ القانون الدولي تجد صداها في ما يتعلق بإثبات الجنسية فـي المنازعـات المثارة أمام مركز تحكيم واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى. فللتثبت من الجنسية المدعى بها يقوم المحكم بفحـص مختلـف العناصـر القانونيـة والوقـائع المعروضة عليه تطبيقا لاتفاقات الحماية الثنائية. ولقيامه بهذه المهمة يلتزم المحكم بضمان احترام اختصاصه والتحقق من توافر مفترضات الصفة الأجنبية بالمستثمر بالطريقة المبينة تطبيقاً للقانون الواجب التطبيق أو المعاهدة الدولية المطبقة وهو ما مقتضاه ضرورة إعمال نـصوص اتفاقيـة واشنطن. ويثور التساؤل بهذه المناسبة عما إذا كان كافياً أن يملأ المستثمر شرط الجنسية المقرر بالاتفاقية الثنائية لحماية وتشجيع الاستثمار للوقوف علـى حيازتـه للـصفة الأجنبيـة بـالمعنى المتعارف عليه باتفاقية واشنطن؟

   للإجابة عن ذلك يمكن القول بـأن تراضـي الأطـراف علـى إعمـال شـرط الجنـسية المقرر بمعاهدة الحماية الثنائية من الممكن أن يـؤدي للاحتجـاج بـه علـيهم تطبيقـاً لمبـدأ Pacta_sunt_servenda ومراعاة للنظرية الشخصية. ولكن اعتباراً أن شرط الجنسية يحظـى بطابع موضوعي عندما نستعرضه أو نحتج به كشرط من شروط انعقـاد الاختصاص لمركـز واشنطن، فإن هيئة التحكيم تظل صاحبة السلطة التقديرية وسيدة قرارها بخصوص تقدير هـذه المسألة .le tribunal arbitral reste le maître de sa propre appreciation ويكـون الاتفاق المبرم أو التراضي بين الأطراف حول هذه المسألة ملزماً لهم عندما يتعلق الأمر بالوقوف على الحق في الانتفاع بالحماية المقررة بالمعاهدة الثنائية غير أن حجية ونطاق تطبيـق ذلـك لا يتعدى المعاهدة telle portée ne déborde pas le traité.

   وفي الحالة التي يكون هناك تراض بين الأطراف على التحكيم يرى جانب فقهي أنـه «علينـا أن ننتظر من المحكمة أو الهيئة موقفاً أكثر تيسيراً وسهولة واتساعاً للصدر عند تطبيقها القواعـد الدوليـة le standard international فمثل هذا الاتفاق يقيم قرينة قوية Un tel accord créé une forte .présomption وهذا ما يكون دائماً مفيداً عندما يتعلق الأمر بإقامة الدليل على ثبوت الجنسية، غيـر أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مجرد قرينة. ففي سنة 1999 رفض السكرتير العام لمركـز تحكـيم واشنطن طلباً كان قد قدم من شخص طبيعي متمتع بجنسية دولتين طرفين في معاهدة الحمايـة الثنائيـة التي استند إليها. ورغم أن هذه المعاهدة كانت ترخص للمستثمر طلب التحكيم لكونها كانت قـد تبنـت نصاً فضفاضاً للصفة الأجنبية، إلا أن مركز التحكيم كان قد قرر رفض طلب التحكيم المقـدم إليـه منكراً بذلك على هذا المستثمر الشخص الطبيعي حق اللجوء بالتحكيم إلى مركز واشنطن اسـتناداً الـى ما اعتبره بخصوص المعاهدة المستند إليها من أنها معاهدة excessivement permissif'

  ونحن نرى – مع آخرين – أن هذا القرار يستحق التقدير من حيث أنـه يؤكـد أن جنـسية المستثمر الشخص الطبيعي يجب أن تخضع لعدد من الشروط المحددة بحسب ما إذا كان الأمـر متعلقاً بتطبيق اتفاقية الحماية الثنائية أو بتطبيق اتفاقية واشنطن فـإن نطـاق تطبيقهـا وحـدود استخدامها يمكن أن يكون مختلفاً وللتوصل إلى تطبيق اتفاقية واشنطن يكون للمحكم الوقـوف على جنسية المستثمر، مفترضاً أن هذه الجنسية لم تكن محلاً للتحديد من جانب اتفاقيـة الحمايـة الثنائية. ومع ذلك يكون للمحكم أن يستعين بالمعاهدة الثنائية التي يمكن أن تقدم له عناصر هامـة للقيام بمهمته على الوجه الأكمل. وجدير بالإشارة أنه من اللحظة التي يقبل فيها المحكم بوجـود الجنسية وفقا للمعايير الموضوعية يكون عليه أن يستبعد المعاهدة الثنائية. إذ من المفترض حينئذ أن المنازعة المثارة أمامه قد توافر بشأنها شرط الجنسية الوارد باتفاقية واشنطن وشرط الجنسية الوارد بالاتفاقية الثنائية، غير أن هذا الفرض لا يعدو إلا أن يكون فرضاً نظرياً.

   ففي تحكيم سياج ضد الحكومة المصرية لم تعر هيئة التحكيم اهتماماً بما دفعت به الأخيـرة من أن المدعي كان قد اكتسب الجنسية اللبنانية بالغش والخداع، لأنها لم تقم على تلـك المـزاعم الدليل بطريقة فعلية. وبالرغم من تلك الاعتراضات التي تبرز أن سياج حصل على الجنسية اللبنانية بطريق الخداع إلا أنه تراء للمحكمة خلاف ذلك في ظل النفي القاطع من جانـب سـياج ارتكاب أي مخالفة بشأن حصوله على الجنسية اللبنانية. خلصت الهيئة إلى أن مصر لم تقدم أدلة كافية لإثبات الخداع، وأن الأدلة التي استندت إليها لم تستوف شروط الإثبات المفروضة. بما أن مصر لم تثبت حصول سياج على الجنسية اللبنانية بطريق الخداع فقد ترتب على ذلك عجزها عن إثبات عدم فقده الجنسية المصرية. فمصر التي تحملت عبء الإثبات لم تتمكن من إقامة الـدليل على أن سياج كان مصرياً في كل الأوقات ذات الأهمية، عملاً بالمادة 25 من اتفاقية واشنطن، لعجزها عن إثبات الغش عند اكتسابه الجنسية اللبنانية . ولقد ذهبت هيئة التحكيم أبعد من ذلـك  حين قررت أنه ولو ثبت الخداع في اكتساب الجنسية اللبنانية، فإن نص المادة 10 مـن قـانون الجنسية المصري لا يقيد قانون الجنسية اللبناني. وأنه نتيجة لذلك، وحيث أنه وفقاً للمادة العاشرة من القانون المصري يكون إصدار أول جواز سفر لبناني للسيد سياج كاف لجعله فاقداً جنسيته المصرية في ظل غياب الإعلان عن نيته الاحتفاظ بالجنسية المصرية وفقاً للمادة 10. وكـأن هيئة التحكيم أضفت على جواز السفر اللبناني وصف الحجة القاطعة الدالة على ثبوت الجنسية اللبنانية وفقدانه الجنسية المصرية بخلاف المألوف في السوابق التحكيمية من الانتهاء إلى اعتبار مثل تلك الوثائق من قبيل القرائن البسيطة على الجنسية.

   وفي تحكيم كازادو ضد دولة شيلي حيث أثير النقاش بخصوص الصحيفة المدنيـة للـسيد كازادو، إذ أشير إلى أن هذا المستند كان قد تم إصداره من موظف غير مفوض أو غير مختص بذلك، وأن التحقيق الذي كان قد أجرى عن سلطة غير مختصة، وأن التاريخ الوارد على المستند يبرز أن فقد السيد كازادو الجنسية الشيلية – إن كان واجب التحقق – ما كان ليحـدث إلا بعـد التواريخ المقررة باتفاقية واشنطن. ورداً على هذه النقاط الثلاث أشير إلى أنه فـي مـا يخـص تحرير المستند من موظف غير مفوض فإن الدولة الخصم أقرت بأن هذا الموظف لم يفعـل التأكيد على التحقيقات التي أعطيت له أو الأوامر التي صدرت إليه من مدير المسائل القنصلية والهجرة بوزارة العلاقات الخارجية الشيلية. وأنه في ما يخص القول بأن السلطات التي أعطـت أوامرها لم تكن بدورها مختصة، فإنه يبدو من ناحية أنه بحسب شيلي، ومن حيث أنه لـم يكـن ممكناً التخلي عن الجنسية، فلا يوجد ثمة سلطة مختصة للتعامل مع هذه المسألة. ثم أنه إذا كنـا ملزمين بمراعاة الشكل المطالب به من جانب دولة شيلي بخصوص ضرورة اختصاص السلطة فينبغي تطبيق ذلك كله على كامل المسألة، وبالتبعية رفض أن تكـون كلمـة أجنبـي ببـساطة ممحاة biffée من جانب مدير سجل الأحوال المدنية دون موافقة السيد كازادو أو دون أن يصدر بخصوصها حكم قضائي. ذلك أنه وفقاً للقانون الشيلي فقد كانت الحالتان مما يجوز فيهما تعـديل شهادة الحالة المدنية .

   وحيث قيل إن الحق في تغيير الجنسية لا يساوي الحق في التخلي عنها، لأنه في هذه الحالة الأخيرة يكون ممكناً للمتخلي عن الجنسية الوقوع في دائرة انعدام الجنسية التي يجب على الدول أعضاء المجتمع الدولي العمل على تلافيها مراعاة للمعاهدات الدولية. غير أن الواضح أن السيد كازادو لم يكن في هذا الفرض – لما ثبت من احتفاظه بالجنسية الشيلية – في إطار مـن ازدواج – الجنسية حيث أنه كان إسبانيا منذ عام 1974. ثم أنه بفرض تخليه عن الجنسية الشيلية للتخلص من ازدواج الجنسية، فإنه ما كان ليصبح عديم الجنسية نظرا لاحتفاظه بالجنسية الإسبانية. وليس صحيحاً الزعم بأن المدعين كانوا قد طالبوا بالفصل في جنسية السيد كازادو دونما حاجة للرجوع الى القانون الشيلي بشأنها، فالثابت أنهم كانوا قد التمسوا من هيئة التحكيم للفـصـل فـي مـسائل الجنسية أن تأخذ بعين الاعتبار نصوص القانون الشيلي الخاصة بالجنسية وقواعد القانون الدولي، ومن بينها الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والتي كان يجب إدراجها من جانب دولة شيلي في النظام القانوني الداخلي، بالإضافة إلى كافة الالتزامات الدولية الأخرى الموقع عليها من جانـب شيلي، ومن بينها الاتفاقية الخاصة بازدواج الجنسية، والتي سبق لها إبرامها مع إسبانيا.

    وفي تحكيم سوفراكي ضد الإمارات العربية المتحدة في 7 يولية سنة 2004 كان المـدعي بالتحكيم قد أقام طلبه على سند من القول أنه كان إيطالي الجنسية، مطالباً هيئـة تحكـيم مركـز واشنطن تأسيساً على ذلك تقرير اختصاصها إعمالا لإتفاقية الحماية الأجنبية الثنائية المبرمة بـين إيطاليا والإمارات العربية. وكان سوفراكي قد تقدم – دعماً لـذلك – بالعديـد مـن المـستندات التحضيرية التي كان قد حصل عليها بطريقة مشروعة من الحكومة الإيطاليـة. ولقـد اعتبـرت المحكمة على الرغم من ذلك أن المدعي لم يكن متمتعاً بالجنسية الايطالية المدعي التمتـع بـهـا. فعلى الرغم من أن المستندات المقدمة من المدعي كانت ما بين جواز سـفر ايطـالي وشـهادة بالجنسية الايطالية صادرة عن السلطات الإيطالية، إلا أن هيئة التحكيم اعتبرت أن تلك المستندات لم تكن لترقى كي تشكل دليلاً قاطعاً على الجنسية الإيطالية للمدعي. ولقد كان من شأن هذا القرار إثارة التساؤل حول ضرورة استلزام تمتع المحكم بسلطات واسعة عند إثارة الـشك بخـصوص الجنسية أو المنازعة فيها. وفي محض رفضها إضفاء الحجية القاطعة على المستندات المقدمة إليها، أكدت لجنة الطعن أنها ما كانت لتقبل مستندات وأوراقا رسمية مقدمة مـن دولـة بخصوص جنسية أحد رعاياها. وعلى العكس، فإن المحاكم المرفوعة أمامها مثل هـذه المـسائل أن تقود تحليلها للقانون الواجب التطبيق والمستندات المقدمة إليها، والتي لا تكون إلا مجرد أدلة بسيطة. وهذا الأمر مستقر في القانون الدولي، كما سبق أن أكدته العديـد مـن القـرارات والأحكام، ومن بينها تلك الصادرة في مسائل الاستثمار الدولي. ولجنة نظر الطعن صدقت علـى ذلك بطريقة مقنعة تماماً بما يعني عدم وجود ثمة تعسف أو إساءة في استعمال السلطة من جانب هيئة التحكيم التي أنيط بها الفصل في طلب التحكيم الذي قدمه السيد سوفراكي وفق ما انتهت إليه لجنة الطعن .

   ولم يغيّر من مصير الحكم الصادر في هذه الدعوى الطعن الذي أقامه سوفراكي أمام لجنـة الطعن الفردي تأسيساً على انتفاء التسبيب وعدم إعمال القانون الواجب التطبيق وإساءة استخدام السلطة حيث انتهت اللجنة إلى الاعتراف لهيئة التحكيم بسلطة واسعة في ثبوت جنسية الأطراف، وأن هذه السلطة الواسعة لا تقف عند حد فحص المستندات المقدمة إليها مـن جانـب المـدعي فحسب، والتي كانت أدلة بسيطة. ولقد كانت وقائع الدعوى قد أوضحت أن سوفراكي كان متمتعاً بالجنسية الإيطالية، ثم بالجنسية الكندية منذ سنة 1991، ولكنه لم يتخـذ الإجـراءات اللازمـة للاحتفاظ بجنسيته الإيطالية، الأمر الذي دعا المحكمة سنة 2004 إلى اعتباره لذلك فاقداً شـرط الاحتفاظ بالجنسية الإيطالية. هذا القرار – الذي نؤيده – يبدو غاية في الأهمية لأنه إن لم ينكر قابلية القوانين الوطنية للتطبيق بشأن ثبوت الجنسية، إلا أنه أقام الأسس القانونية لسلطة المحكـم عند تعرضه لفحص الجنسية، والتي تحظى بطبيعة تشريعية قضائية وفقهية، حيث يتعلق الأمـر بمبدأ الاختصاص بالاختصاص وبالشروط الموضوعية للجنسية الأجنبية الـواردة فـي اتفاقيـة واشنطن وفي الفقه والقضاء. فالقرار الصادر عن هيئة التحكيم سخر تلك السلطة من الوجهـة الإجرائية، مؤكداً أن هيئة التحكيم ليست ملزمة بمراعاة القانون الإجرائي الوطني عند القيام بتلك العملية، والتي تعتبر عملية تطبيق للقواعد القانونية المتعلقة بالجنسية على حالة من الواقع. ولقـد انتهت لجنة الطعن على قرار الاختصاص الصادر عن مركز واشنطن إلى أن القانون الإجرائـي للدولة المدعى التمتع بجنسيتها يمكن أن يكون مستخدماً فقط عندما يكون هناك اتصال ضـروري من شأنه جعل هذين النوعين من القواعد غير قابلين للفصل. فالسلطة الإجرائية للمحكم بمركـز واشنطن تنصب على مهمته التي تمتد بذاتها إلى التحقق من أن القواعد الإجرائية والموضـوعية المستخدمة من جانب الدولة عند منح الجنسية المتنازع فيها قد تمـت مراعاتهـا، وأن الجنسية المتنازع فيها كانت قد منحت أو اكتسبت بطريقة مشروعة. ولذا فقط في الفرض الذي تكون فيـه هذه القواعد المختصة من النظام القانوني المعني لم تتم مراعاتها، فالمحكم ينكر على الجنسية كل ومن المهم كذلك استعراض الرؤية المعلنة من جانب المحكم عن سوفراكي البروفسور عمر نابلسي الذي كان قد انتهى إلى أن المستندات المقدمة دعماً لإثبات الجنسية لم تكـن إلا عناصـر إثبات بسيطة، وكانت بالتالي قابلة للرفض، حيث كان للمحكمة أن تأخذها أو إلا تأخـذها بعـين الاعتبار. والمحكمة إذا اختارت عدم أخذ هذه الأدلة بعين الاعتبار فكان عليها من وجهـة نظـر المحكم المقرر أن تبرز الأسباب التي قادتها إلى مثل هذا القرار. وهـذه الحجـة لا ينقصها المنطق حتى ولو كان الدليل المقدم على عدم التمتع بالجنسية كافيا للوقوف على صحة المستندات المقدمة في هذا الشأن. فإذا كانت المحكمة لم تذكر ذلك فإن هذا الموقف ما كان من شأنه أن يغيّر شيئاً. وكان عليها أن تذهب بأسباب ما إنتهت إليه إلى أبعد من ذلك. لقد كان أولى بها – ربما بعد أن انتهت من فحص المستندات – أن تقرر أن تلك المستندات كانت قد أصبحت فاقدة الفاعلية أو أنها لم تكن مطابقة للحقيقة أو حتى أنها كانت قد أعطيت للمستثمر على سبيل المجاملـة بغيـة التوصل لقبول طعنه أمام مركز واشنطن وهو الأمر الذي كان من شأنه إثارة بعض الصعوبات لما ينطوي عليه مثل هذا السبب مـن تـرادف مـع نظريـة الغـش نـحـو القـانون أو نحـو الاختصاص.

  من ذلك نخلص إلى أن المستقر عليه أمام مركز تحكيم واشنطن أن كافة المستندات المقدمة من المدعين بالتحكيم أمام المركز لإثبات جنسيتهم، سواء في ذلك جوازات السفر أو شـهادات الجنسية أو المستندات الرسمية تعد من قبيل القرائن البسيطة التي يمكن رفضها لقابليتهـا إثبـات العكس، وأن هيئة التحكيم تتمتع في هذا الشأن بالسلطات الكاملة للقيام بالتحقيقات اللازمة للتوصل الى الجنسية الحقيقية للمدعين في منازعات الجنسية المثارة أمام المحـاكم وهيئـات التحكـيم الدولية. فتارة ترفضها المحاكم الدولية، وأخرى تقبل بها، بحسب ظروف الحال وما تنبـئ بـه ملابسات كل منازعة مثارة بخصوص الجنسية.