الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم الدولي / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية العدد 20 / تعارض المصالح في التحكيم الدولي بين الواقع والمرتجى

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية العدد 20
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    71

التفاصيل طباعة نسخ

 تمهيد:  

خلال السنوات المنصرمة، أضحى موضوع تعارض المصالح في التحكيم الدولي موضوعاً شائكاً تتعدد فيه الآراء حتى التناقض. ولا غلو في القول ان تنوع المشاركين في حقل التحكيم الدولي وتنوع انتماءاتهم وخلفياتهم وثقافاتهم القانونية يقابله تنوع مشابه في نظرتهم الى موضوع تعارض المصالح. ولا ينفع في مثل هذا الوضع الاصطدام بالرأي الآخر، بل يجب التخلي عن الشكوك المتبادلة واجراء قراءة متأنية لمختلف الآراء وحوار هادىء بناء بين اطراف العملية التحكيمية الاساسيين بغية التوصل الى أرضية مشتركة.  

  ورغم تعدد الآراء وتشعبها في هذا الموضوع الشائك، يوجد حد ادنى من التوافق على مبادىء اساسية لا يمكن التنازل عنها. واول تلك المبادىء الذي تجمع عليه شتى الآراء هو وجوب توافر محكمين يكونون حياديين ومستقلين عن الاطراف كافة ويستمرون كذلك طيلة الاجراءات التحكيمية. والمبدأ الأساسي الثاني المتعارف عليه هو وجوب ان يكون المحكمون من ذوي الخبرة والكفاية في المجال الذي هو موضوع النزاع. وبطبيعة الحال، يترتب على هذا المبدأ الثاني ان خيار الاطراف غالباً ما يقع على محكمين حققوا انجازات في مجالات اختصاصاتهم ويتمتعون بسمعة وعلاقات طيبة في وسطهم المهني. ومن غير المتصور تعيين محكم ما في نزاع ما دون ان يكون اسمه قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا وملفات سابقة، وان نتخيل انه سوف يعزل نفسه عن أية ارتباطات مهنية اخرى طيلة الاجراءات التحكيمية، وانه سوف يتقاعد من المهنة القانونية عند الانتهاء من الاجراءات التحكيمية .

   يتبين مما تقدم ان هناك اجماعاً على انه بامكان المحكمين ان يكون لهم ماض مشهود في حقل التحكيم الدولي، كما أنه بوسعهم ان يمزجوا جزءاً من ماضيهم مع نشاطاتهم الحاضرة كمحكمين، بل ان يمارسوا نشاطات تحكيمية أخرى في المستقبل. ويكمن الخلاف في وجهات النظر حول نوعية الماضي الذي يمكن ان يجلبه المحكم الى الحاضر، وحول طبيعة النشاطات الأخرى الماضية والحاضرة ومدى ملاءمتها العملية التحكيمية الحاضرة، وحول طبيعة النشاطات المستقبلية التي بامكان المحكم ان يضطلع بها بدون اشكال. ويكمن الخلاف أيضاً حول ما إذا كان تنظيم تلك المسائل ينبغي ان يترك لتقدير المحكمين انفسهم ام انه ينبغي اخضاعهم لقواعد واضحة هذا الشأن. وفي هذه الحالة، ينبغي التساؤل عن الجهة المنوط بها وضع تلك القواعد. 

في واجب الإفصاح وإرشادات الـ IBA:

  على المحكم ان يبذل قصارى جهده لتفادي مخالفة موجبات الحيدة والاستقلالية التامة. لذا على المحكم الذي يعين ان يفصح في بداية الاجراءات التحكيمية عن كل الوقائع التي قد يعتبرها الشخص المدرك العاقل أسباباً قد تبرر رد المحكم. واذا افصح المحكم عن وقائع معينة ولم يعترض أي من الاطراف على تعيينه، يعتبر ان الاطراف قد تنازلوا عن حقهم في الاعتراض لاحقاً على حيدة واستقلالية المحكم، فيما يتعلق بالوقائع التي تم الافصاح عنها.

   والجدير بالذكر ان واجب المحكم الافصاح عن أي تعارض محتمل للمصالح يعتبر واجباً مستمراً طالما استمرت الاجراءات التحكيمية. فإذا نشأت ظروف جديدة خلال التحكيم من شأنها ان تثير ريبة حول حياد المحكم او استقلاليته، وجب على المحكم ان يفصح بدون ابطاء عن تلك الظروف للاطراف كافة وللمحكمين الآخرين إن وجدوا.

   من الملاحظ ان طلبات رد المحكمين قد تزايدت تزايداً ملحوظاً خلال الاعوام الأخيرة وتنوعت أسبابها ومراميها. لذا أصبح لزاماً على المحكمين أن يفصحوا إفصاحاً شاملاً عن كل ما قد يثير شكوكاً حول استقلالهم وحيادهم. كما ينبغي ان يتبعوا قاعدة قوامها انه في حال الشك في وجوب الافصاح او عدمه، وجب عليهم الافصاح دون تردد. وهنالك شواهد كثيرة تشير الى ان الافصاح الشامل من المحكمين لا تترتب عليه بالضرورة طلبات رد من الاطراف. وإذا سلّمنا جدلا ان الافصاح الشامل من المحكمين قد يستتبع اعتراضات غير مجدية من الاطراف الغاية منها المماطلة وتأخير الاجراءات التحكيمية، فان غالبية مراكز التحكيم اعتمدت قواعداً تمكن بتّ تلك الاعتراضات بطريقة فعالة.

    ان قرار محكم معين الافصاح للأطراف وللمحكمين الآخرين عن ظروف معينة او عدمه قد يتأثر بعوامل شخصية وثقافية خاصة بالمحكم. ولا غرابة اذاً ان يتوصل محكمون مختلفون الى نتائج متناقضة فيما يخص المسائل التي ينبغي الافصاح عنها. وقد تنبهت نقابة المحامين الدوليين ("IBA" او "International Bar Association") الى تلك المسألة فاستعانت بخبرة فريق عمل قوامه تسعة عشر اختصاصياً متمرساً من بلدان مختلفة بغية الوصول الى أكبر قدر ممكن من الوضوح والتجانس، فيما يتعلق بالمسائل التي ينبغي الافصاح عنها من قبل المحكمين. وتبنـت الـ IBA سنة 2004 في ضوء دراسة فريق العمل هذا، ارشادات في شأن تعارض المصالح في التحكيم الدولي. وتتضمن الارشادات معاييراً عامة تصلح للاستعمال في الحالات الخاصة، كما تحيل إلى حالات خاصة قد يتساءل فيها المحكم إذا كان عليه الافصاح قبل ان يمارس مهماته. وهذه الحالات تم تصنيفها في ثلاث قوائم: قائمة حمراء وقائمة برتقالية وقائمة خضراء تبعاً لخطورة الحالات التي تتضمنها القوائم.

   وتتكون القائمة الحمراء من جزءين: قائمة حمراء تشمل حالات لا يسري بشأنها تنازل الاطراف عن حق الاعتراض وقائمة حمراء يجوز فيها التنازل. وتضم القائمة الحمراء التي لا يجوز التنازل فيها تعداداً غير حصري لحالات لا يجدي الافصاح عنها في إزالة تعارض المصالح. اما القائمة الحمراء التي يجوز التنازل فيها، فانها تشمل تعداداً غير حصري لحالات جدية، ولكنها ليست على المصاف ذاته من الخطورة كسابقاتها.لذا فانه يجوز التنازل فيها إذا عبر الأطراف صراحة، بالرغم من معرفتهم بحالة تعارض المصالح، عن رغبتهم في قبول شخص معيّن كمحكم.

   وتشمل القائمة البرتقالية تعداداً آخر غير حصري لحالات معينة قد تثير في نظر الاطراف شكوكاً لها ما يبررها حول حيدة المحكم المعين او استقلاله. ويتوجب على المحكم المعين ان يفصح عن تلك الحالات للأطراف. وفي تلك الحالات، يعتبر الاطراف قد تنازلوا عن حقهم في الاعتراض على المحكم بخصوص الظروف التي تم الافصاح عنها إذا لم يبدوا اعتراضاً عقب الافصاح.

   وتتضمن القائمة الخضراء تعدادا غير حصري لحالات خاصة لا توجد فيها مظاهر تعارض في المصالح من وجهة نظر موضوعية، وبالتالي لا يلزم المحكم بالإفصاح عن الحالات التي تندرج في القائمة الخضراء. 

  والملاحظ أن الاطراف الذين يعترضون على محكم معين وأولئك الذين يتصدون للاعتراض غالباً ما يستندون استناداً قوياً الى ارشادات الـ IBA في شأن تعارض المصالح لكي يدعموا وجهات نظرهم. اما مراكز التحكيم، فإنها لا تطبق مباشرة ارشادات الـ IBA، لكنها تستأنس بها وتعتبرها وثيقة مفيدة، وان لم تكن ملزمة.

  المحاكم الوطنية والاستعانة بارشادات الـ IBA:

    عند تقديم اعتراض على محكم معين امام المحاكم الوطنية، تستند تلك المحاكم عادة لبت الاعتراض الى معايير متوافرة في قوانين التحكيم المطبقة على اراضيها. والسؤال: هل أن تلك المحاكم تستأنس كذلك بارشادات الـIBA، أقله في الحالات التي تثير فيها الاطراف تلقائياً تلك الارشادات في مذكراتها.

   والحقيقة أن أحكام المحاكم الوطنية التي أثيرت أمامها ارشادات الـ IBA قليلة. وهذه الاحكام، على قلتها، تبرز أربعة اتجاهات رئيسية.

    الاتجاه الاول الذي يمكن ان تسلكه محكمة وطنية يقضي برفض تطبيق ارشادات الـ IBA. وهذا ما فعلته محكمة فيينا التجارية في حكمها الصادر بتاريخ 24 يوليو (تموز) 2007. ففي تلك القضية، اعترض المحتكم على المحكم الذي تم تعيينه من قبل المحتكم ضده في تحكيم كان منظوراً وفقاً لقواعد المركز التحكيمي الدولي للغرفة النمساوية الفدرالية الاقتصادية، باعتبار ان المحكم كان قد تم تعيينه سابقاً من قبل المحتكم ضده اربع مرات، وهو ادعاء لم ينفه المحتكم ضده.

  واستند المحتكم في اعتراضه الى تعيين المحكم الى الفقرة 3.1.3 من القائمة البرتقالية لإرشادات الـ IBA التي تنص على ان "المحكم قد تم تعيينه خلال السنوات الثلاث الأخيرة كمحكم في قضيتين او اكثر من قبل احد الاطراف او جهة تابعة لأحد الأطراف". وادعى المحتكم ان على محكمة فيينا ان تأخذ ارشادات الـ IBA بعين الاعتبار، لأن هدف قانون التحكيم النمساوي لسنة 2006 هو جعل التحكيم في فيينا اكثر ارتباطاً بالمعايير الدولية.

  لكن محكمة فيينا ردت اعتراض المحتكم، وكذلك إستعانته بارشادات الـ IBA. ولاحظت المحكمة انه في غياب ارادة واضحة من المشترع النمساوي باعتماد ارشادات الـ IBA، لا يصح القول انه يجب تفسير القانون النمساوي في ضوء الفقه والعرف الدوليين. ولم تكترث محكمة فيينا لتوالي تعيين المحكم من قبل الطرف نفسه، بل أنها شبهت المحكم المعين في تلك الظروف بالقاضي الوطني الذي ينظر في قضايا عديدة بين الأطراف أنفسهم. ولم يفت محكمة فيينا الملاحظة ان الحكم التحكيمي سوف تتخذه هيئة تحكيمية مؤلفة من ثلاثة أعضاء وليس من المحكم المطلوب رده بمفرده.

   أما الاتجاه الثاني الذي اعتمدته بعض المحاكم الوطنية فقد قضى بتجنب التطرق الى مسألة تطبیق ارشادات الـ IBA. ونعطي مثالاً على هذا الاتجاه حكم محكمة مقاطعة لاهاي المؤرخ في 18 اكتوبر (تشرين الاول) 2004 في قضية تحكيم في مجال الاستثمار بين جمهورية غانا وشركة تلكوم ماليزيا محالة الى تحكيم محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي طبقاً لقواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الاونسيترال) على اساس معاهدة استثمار ثنائية معقودة بين غانا وماليزيا.

   وكانت جمهورية غانا قد اعترضت امام محكمة مقاطعة لاهاي على المحكم المعين من قبل تلكوم ماليزيا بدافع ان المحكم في تلك القضية كان في الوقت نفسه محامياً لمستثمر في دعوى ابطال حكم تحكيمي في قضية اخرى مرفوعة امام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ("اکسید" او "ICSID“). فبينما كان المحكم يسعى من خلال دوره كمحام إلى إبطال حكم تحكيمي صادر عن الـ ICSID لصالح المملكة المغربية، كانت جمهورية غانا تستعين بالحكم التحكيمي ذاته لدعم موقفها في التحكيم القائم تحت مظلة محكمة التحكيم الدائمة.

  والجدير بالذكر أن طرفي النزاع استعانا بإرشادات الـ IBA لتأييد حججهما القانونية أمام محكمة لاهاي. فبينما أشارت جمهورية غانا إلى المعيار العام 2 من إرشادات الـ IBA، استندت تلكوم ماليزيا إلى الفقرة 4.1.1 من القائمة الخضراء لإرشادات الـ IBA. أما محكمة مقاطعة لاهاي، فإنها بدل أن تنظر في حجج الطرفين المتناقضة فيما يتعلق بإرشادات الـ IBA بنت حكمها على أساس القانون الهولندي، ولا سيما المادة 1033 من قانون المرافعات الهولندي. واعتبـرت محكمـة لاهاي أن تمثيل أحد الأطراف في دعوى إبطال حكم تحكيمي صادر عن الـ ICSID وفي الوقت نفسه تقييم هذا الحكم كمحكم أمام محكمة التحكيم الدائمة، هما موقفان لا يستقيمان. لذا طالبت محكمة لاهاي المحكم بأن يختار بين دوره كمحام في دعوى الابطال المرفوعة أمام الـ ICSID ودوره كمحكم تحت مظلة محكمة التحكيم الدائمة.

  أما الموقـف الثالـث الذي اتبعتـه بعض المحاكم الوطنية، فقد قضى بالقول ان ارشادات الـ IBA ، وإن كانت متعلقة بالموضوع، فإنها غير شاملة، فضلاً عن كونها غير ملزمة قانوناً. وقد سارت في هذا الاتجاه المحكمة الفدرالية العليا في سويسرا في حكمها الصادر في 10 يونيو (حزيران) 2010. وفي هذه القضية، كان نادي تشيلسي لكرة القدم قد أنهى عقد عمل لاعب كرة قدم روماني بعد أن اثبتت اختبارات المنشطات وجود مخدرات الكوكايين في دمه. قررت إثرها هيئة تحكيمية برئاسة محكم ألماني تحت مظلة محكمة التحكيم الرياضية أن اللاعب الروماني قد أخل بعقد العمل بإرادته المنفردة مما يبرر انهاء العقد. تقدمت عندها تشيلسي بطلب تعويض أمام غرفة تسوية المنازعات التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) وحصلت على حكم بالتعويض مقداره 17 مليون يورو. فتقدم اللاعب الروماني بطلب طعن ضد حكم الـ FIFA أمام محكمة التحكيم الرياضية. وفي التحكيم الثاني تحت مظلة محكمة التحكيم الرياضية، عيّنت تشيلسي كمحكم من قبلها المحكم الألماني نفسه الذي ترأس الهيئة التحكيمية الأولى التي قضت لصالح تشيلسي. وردت الهيئة التحكيمية الثانية طلب الطعن المقدم من اللاعب. فما كان من اللاعب إلا أن تقدم أمام المحكمة الفدرالية السويسرية بطلب إبطال حكم التحكيم على أساس تشكيل هيئة التحكيم تشكيلاً غير صحيح عملاً بأحكام المادة 190 من القانون الدولي الخاص السويسري.

   واستند اللاعب الروماني إلى الفقرة 2.1.2 من القائمة الحمراء القابلة للتنازل من إرشادات الـ IBA (التي تنص على أنه "سبق للمحكم المشاركة في القضية") والفقرة 3.1.5 من القائمة البرتقالية من إرشادات الـ IBA (التي تنص على أن "المحكم يعمل حالياً أو قد عمل خلال السنوات الثلاث الأخيرة كمحكم في تحكيم آخر في موضوع مرتبط بهذا التحكيم متضمناً أحد الأطراف أو جهة تابعة لأحد الأطراف") ليخلص إلى أن المحكم الألماني يفتقر إلى الحياد.

   وردت المحكمة الفدرالية العليا في سويسرا طلب اللاعب الروماني إبطال الحكم التحكيمي بالإستناد إلى إرشادات الـ IBA. فبخصوص الفقرة 2.1.2 المتعلقة بمشاركة المحكم السابقة في القضية، اعتبرت المحكمة السويسرية أن التحكيمين يتعلقان بقضيتين مختلفتين، كما يتبين من أرقام تسجيل القضيتين المختلفين. أما بخصوص الفقرة 3.1.5 من إرشادات الـ IBA، فارتأت المحكمة السويسرية أن تلك الفقرة لا تطبق عندما يكون الطرفان مشاركين بالاجراءات التحكيمية السابقة، كما في الحالة الحاضرة.

   غير أن المحكمة السويسرية ما لبثت أن أشارت إلى أن إرشادات الـIBA، وإن كانت أداة قيمة، غير أنها ليست ملزمة قانوناً. وأضافت المحكمة أنه يجب تمحيص كل قضية على أساس وقائعها الخاصة. لذا قررت المحكمة السويسرية رفض إبطال الحكم التحكيمي بصفة اساسية استنادا إلى السوابق القضائية السويسرية التي توجه المحاكم السويسرية إلى النظر في ظروف القضية الخاصة وإجراءاتها.

    وتجدر الإشارة إلى أن حكم المحكمة الفيدرالية العليا في سويسرا الصادر في 10 يونيو (حزيران) 2010 قد توصل إلى النتيجة نفسها التي توصل إليها حكم سابق صادر بتاريخ 20 مارس (آذار) 2008 من المحكمة ذاتها في قضية مختلفة. وقد أشار الحكم الأخير كذلك إلى ارشادات الـIBA ، لكنه لم يسلم بها، كما يتبين من الفقرة التالية:

   "بإمكان الأطراف أن يستندوا كذلك إلى إرشادات الـIBA المتعلقة بتعارض المصالح في التحكيم الدولي التي تمت الموافقة عليها بتاريخ 22 مايو (أيار) 2004 لكي يتحققوا من استقلال محكميهم.... بالتأكيد، ان الإرشادات ليست ملزمة قانوناً، لكنها تعتبر أداة عمل قيمة بإمكانها أن تساهم في توحيد المعايير المتبعة في مجال تعارض المصالح في التحكيم الدولي. وبالتالي يجب أن تؤثر في عمل المحاكم والمؤسسات التي تدير الاجراءات التحكيمية. وتطرح الإرشادات مبادئ عامة كما أنها تتضمن قائمة غير حصرية من الظروف الخاصة.... ولا حاجة الى القول انه بغض النظر عن وجود تلك اللوائح، فإن الظروف المحيطة بكل قضية سوف تكون دائماً حاسمة تحديد ما إذا كانت هناك حالة تعارض مصالح".

    أما الاتجاه الرابع الذي يمكن أن تسلكه محكمة وطنية، فهو يقضي بأن تستند في حكمها كلياً إلى إرشادات الـIBA، كما فعلت محكمة استئناف سفيا في ستوكهولم في حكمها الصادر في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2008. في تلك القضية، كان المحتكم قد تقدم بطلب طعن بالحكم التحكيمي أمام محكمة الاستئناف بحجة أن المحكم السويدي المعين من قبل مكتب المحاماة الذي مثل المحتكم ضده خلال التحكيم قد تم تعيينه ثلاث مرات خلال ثلاث سنوات من قبل مكتب المحاماة ذاته. والجدير بالذكر أن المادة 3.3.7 من القائمة البرتقالية لإرشادات الـIBA تشير إلى حالة "المحكم الذي تم تعيينه خلال السنوات الثلاث الأخيرة أكثر من ثلاث مرات من نفس المحامي أو نفس مكتب المحاماة". واستندت محكمة استئناف سفيا حصراً إلى المعيار الذي وضعته إرشادات الـIBA بأن يكون قد تم تعيين المحكم أربع مرات خلال ثلاث سنوات لكي ترد طلب الطعن بالحكم التحكيمي. وقد جاء في حكم محكمة الاستئناف:

   "خلال فترة الثلاث سنوات التي سبقت تعيين المحكم في التحكيم الذي تنظر فيه هذه المحكمة، كان المحكم قد تم تعيينه مرتين من قبل طرف يمثله محامون يعملون في مكتب المحاماة المذكور. وبما أن إرشادات الـIBA تفترض أن يكون المحكم قد تم تعيينه خلال الفترة الزمنية المذكورة أكثر من ثلاث مرات، أي على الأقل اربع مرات، من قبل نفس المحامين أو نفس مكتب المحاماة، تكون الشروط غير متوافرة لرد المحكم على أساس هذه القواعد".

 

 ملاحظات ختامية متعلقة بإرشادات الـIBA:

   تجدر الإشارة إلى أن لجنة تحكيم الـIBA قد شكلت سنة 2012 لجنة فرعية مهمتها مراجعة الإرشادات بشأن تعارض المصالح التي تم تبنيها سنة 2004. وقد تم التنبه خلال السنوات الثماني التي سبقت تعيين اللجنة الفرعية إلى مسألتين: المسألة الأولى المسألة الأولى هي أن الحالات التي يتم التساؤل بشأنها عما إذا كانت تشكل تعارضاً في المصالح هي حالات، إما قريبة من إحدى الحالات المذكورة في الإرشادات أو حالات تشكل مزيجاً من حالتين واردتين في الإرشادات. اما المسألة الثانية فهي تخص التحكيم في مجال الاستثمار الذي سوف يتم التطرق إليه في البحث المقبل. فبينما تشير المادة الخامسة من مقدمة إرشادات الـIBA إلى أن الإرشادات تطبق كذلك على التحكيم في مجال الاستثمار، ارتأى عدد من أهل الاختصاص انّ الإرشادات لا تعالج بطريقة مباشرة المسائل المتعلقة بالتحكيم في مجال الاستثمار علاوة على كونها غير ملائمة لهذا النوع من التحكيم.

   مهما يكن من أمر، فانه يرجى أن تصبح إرشادات الـIBA المعدلة بشأن تعارض المصالح التحكيم الدولي المزمع صدورها سنة 2014 أداة عمل أكثر فائدة سواء للمحاكم الوطنية أو لمراكز التحكيم، بالرغم من كونها غير ملزمة قانوناً.

   تعارض المصالح الناشئ عن موضوع النزاع:

    هناك نوع من تعارض المصالح بدأ يثير الانتباه في السنوات الأخيرة هو التعارض الذي ينشأ عن علاقة المحكم بموضوع النزاع. ونواجه هذا النوع من تعارض المصالح عندما يكون المحكم قد اتخذ موقفاً واضحاً من مسألة تتكرر في أكثر من تحكيم. ويطرح السؤال هنا عما إذا كان بإمكان المحكم أن يفصل في تحكيم جديد يطرح المسألة نفسها بعقل منفتح؟

    وتعارض المصالح الناشيء عن موضوع النزاع يظهر جلياً اليوم في التحكيم في مجال الاستثمار، لأن هذا النوع من التحكيم غالبا ما يدور حول تفسير معاهدات استثمار تتضمن نصوصاً متشابهة، وتثير عدداً قليلاً من المسائل القانونية التي تتكرر بين تحكيم وآخر. وينبغي هنا التفريق بين ثلاث حالات.

    حالة أولى: المحكم المعين كان قد أدلى بآراء أو القي محاضرات أو كتب مقالات قانونية في مسـائل مشابهة للمسائل المعروضة في التحكيم:

    من المتعارف عليه انه إذا كان محكم معين قد نشر قبل تعيينه أبحاثاً قانونية أو القي محاضرات تتضمن آراء عامة حول مسألة مطروحة في التحكيم، فإن ذلك لا يؤدي تلقائياً إلى وصمه بعدم الحيدة. غير ان الأمر يختلف إذا كانت الآراء التي عبر عنها المحكم سابقاً تتعلق بصلب الموضوع المطروح على التحكيم أو بالوقائع الخاصة بالقضية المتنازع عليها. ففي قضية معروضة أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، تم تقديم طلب رد ضد محكم على أساس آرائه الفقهية. وقد رفض المحكمان الآخران هذا الطلب على النحو التالي:

   "من الثابت من خلال الأحكام الوطنية المتعلقة برد المحكمين كما من خلال ممارسات مراكز التحكيم ان الآراء الفقهية التي سبق ان ابداها محكم بطريقة مجردة وبدون الإشارة إلى قضية معينة لا تؤثر في حيدة واستقلال المحكم حتى وان كانت المسألة محل الرأي قد تطرح خلال التحكيم. ان ابداء فقيه بعض الآراء العامة والفقهية لا يعني انه لن يراعي خصوصية قضية معينة مطروحة ولن يتمكن على هذا الأساس من ان يتوصل إلى رأي مختلف عن الرأي الفقهي الذي ابداه في السابق".

    حالة ثانية: المحكم المعين عمل سابقاً أو يعمل حالياً كمحكم في قضية أخرى تثير نقاطاً مشابهة:

    إن تمتع شخص بخبرة في مجال التحكيم وبدراية بالمسائل القانونية المطروحة في قضية ما قد يجعل تعيينه كمحكم أمراً مرغوباً فيه من قبل طرف من أطراف التحكيم. غير أن الطرف الآخر قد يتحفظ على هذا التعيين بحجة أن للمحكم آراء مسبقة في المسائل القانونية المطروحة في التحكيم.

   ففي قضية محالة إلى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار("المركز" أو "ICSID")، تقدمت دولة الغابون بطلب رد محكم معين من قبل المحتكمة بحجة أن هذا المحكم لا تتوافر فيه صفات الموضوعية والحيدة. وكان سبق لهذا المحكم أن ترأس هيئة تحكيمية في قضية أخرى محالة إلى المركز كانت دولة الغابون طرفاً فيها. واستندت دولة الغابون في طلب الرد إلى كون المحكم قد اتخذ في القضية السابقة موقفاً واضحاً في شأن مسألة قانونية يتوجب بتها في القضية الحاضرة، الا وهي ما إذا كان إلغاء امتياز يشكل استملاكاً.

    وقرر رئيس المجلس الإداري للمركز الذي آلت إليه مهمة بت طلب الرد ان تعرض المحكم القضية السابقة إلى مسائل قانونية مشابهة للمسائل المعروضة في القضية الجديدة لا يشكل سبباً لرد المحكم في نطاق معاهدة الـICSID. وأضاف رئيس المجلس الإداري أن مسألة ما إذا كان الغاء إمتياز ما يعد استملاكاً هي مسألة تتكرر في قانون الاستثمار وتتوقف الاجابة عنها على في وقائع كل قضية على حدة وعلى موقف الهيئة التحكيمية التي تبت القضية بطريقة جماعية.

   وفي قضية أخرى محالة إلى المركز، طلب المحتكم رد المحكم المعين من قبل الدولة المحتكم ضدها على أساس أن المحتكم ضدها قد عينت المحكم نفسه في قضية أخرى تسير بطريقة متوازية مع القضية الحالية وتتشابك بينهما الوقائع والمسائل القانونية. وقد قرر المحكمان الآخران اللذان آلت إليهما مهمة بت طلب رد المحكم المعين من قبل الدولة المحتكم ضدها "أنّ التحكيم في مجال الاستثمار، وحتى في المجال التجاري، قد يصبح غير عملي إذا تم رد محكم تلقائياً بمجرد أنه واجه في تحكيمات متوازية أو متعاقبة مسائل مشابهة من حيث القانون أو من حيث الوقائع".

   وفي قضية محالة إلى المركز تخص فنزويلا، تقدم المحتكمون بطلب رد المحكم الذي عينته فنزويلا في تلك القضية، وكذلك في ثلاث قضايا أخرى محالة إلى المركز. وبرر المحتكمون طلب الرد بأن التحكيم في تلك القضية، وفي إحدى القضايا الأخرى، قد يثيران مسألة قانونية مشابهة، وهي ما إذا كان القانون الفنزويلي المتعلق بتشجيع وحماية الاستثمار يتضمن موافقة فنزويلا على صلاحية المركز. وادعى المحتكمون أنه من المحتمل جداً بت المسألة القانونية في مرحلة أولى في القضية الأخرى المرفوعة أمام المركز مما يؤدي إلى تكوين المحكم رأياً مسبقاً في الموضوع قبل ان يحين أوان بت المسألة وسماع المحتكمين في القضية الحالية. واستند المحتكمون إلى الفقرة 3.1.5 من القائمة البرتقالية من إرشادات الـ IBA (التي تنص على أنّ "المحكم يعمل حالياً أو قد عمل خلال السنوات الثلاث الأخيرة كمحكم في تحكيم آخر في موضوع مرتبط بهذا التحكيم متضمنا أحد الأطراف أو جهة تابعة لاحد الأطراف"). 

   وقد خلص المحكمان الآخران اللذان آلت إليهما مهمة بت طلب الرد إلى أن الفقرة 3.1.5 من القائمة البرتقالية من إرشادات الـ IBA تطبق حصراً في الحالات التي يوجد فيها رابط بين الوقائع والأطراف في القضيتين، وهو ما لم يكن متوافراً في القضية الحالية. واعتبر المحكمان أن القرار الذي سوف يتخذ في القضية الأخرى بخصوص القانون الفنزويلي لا يقيد المحكم الذي عينته فنزويلا في القضية الحالية ولا بالطبع الهيئة التحكيمية بمجموعها. لذا رفض المحكمان طلب الرد.

    وتثير القضيتان المشار إليهما أعلاه مسألة تعيين نفس المحكم من قبل دولة ما في مجموعة قضايا تحكيمية متوازية أو متعاقبة ربما لأسباب عملية أو في سبيل الوصول إلى أحكام متجانسة. والمحكم المعين من الدولة هو الوحيد بين أعضاء الهيئة التحكيمية الذي تم تعيينه في كل القضايا. وهناك تساؤل مشروع عما إذا كان هذا المحكم يستطيع أن يفصل قضايا المطروحة بعقل منفتح.

    ينبغي للإجابة عن التساؤل المطروح التمييز ما بين التحكيمات التي تثير مسائلا قانونية متشابهة، وتلك التي تتعلق بوقائع متشابهة. ففي الحالة الأولى، لا يوجد مبرر للتشكيك بحياد أو استقلالية المحكم. فكما أن المحكم غير مقيد بالآراء الفقهية التي أبداها قبل تعيينه كمحكم، فإنّ المحكم غير مقيد بما انطوته أحكامه التحكيمية السابقة من آراء قانونية سواء تولى التحكيم كمحكم فرد أو كعضو في هيئة تحكيمية. فالمحكم الذي بت مسألة قانونية يستطيع أن يغير رأيه اذا طرحت المسألة القانونية نفسها مجدداً في تحكيم آخر تبعاً لظروف القضية الجديدة أو لمرافعات الأطراف أو لمداولات الهيئة التحكيمية.

    والوضع يختلف عند تعيين المحكم نفسه في هيئات تحكيمية عديدة من قبل طرف واحد مع محكمين آخرين يختلفون بين قضية وأخرى، وتكون القضايا مترابطة فيما بينها من حيث الوقائع. وهناك خشية في هذه الحالة من أن يحصل المحكم من خلال عمله في احدى القضايا على معلومات مهمة تتعلق بالوقائع لا يستطيع أن يفصح عنها أو أن يشاطرها الأعضاء الآخرين في الهيئات التحكيمية الأخرى. ومن الواضح أن وضعاً كهذا يوجد حالة عدم توازن داخل الهيئات التحكيمية قد تؤثر في سلامة المداولات. لذا يجب تجنب هذا الوضع .

    حالة ثالثة: المحكم المعين يعمل حالياً كمحام في قضية أخرى تثير نقاطاً قانونية مشابهة:

    تعتبر هذه الحالة من أدق المسائل المطروحة حالياً في عالم التحكيم الدولي، وهي التي مهدت لمناداة البعض بفصل مهنة المحكم عن مهنة المحامي وبمنع ارتداء قبعتي المحكم والمحامي في آن واحد. وقد جاء حكم محكمة مقاطعة لاهاي المؤرخ في 18 اكتوبر (تشرين الأول) 2004، الذي أشرنا إليه في معرض بحثنا عن استعانة المحاكـم الوطنيـة بإرشـادات الـ IBA، ليسلط الأضواء على المشكلة. وكما ذكرنا، فإن محكمة مقاطعة لاهاي خيّرت ܟܠܰܝܐ مرموقا بين دوره كمحام في دعوى مرفوعة أمام الـ ICSID بغية ابطال حكم تحكيمي صادر عن الـ ICSID لصالح المملكة المغربية، ودوره كمحكم في قضية محالة إلى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي، حيث استعان طرف من أطـراف التحكيـم بالحكـم التحكيمي الصادر عن الـ ICSID لصالح المملكة المغربية في معرض دفاعه عن موقفه. وقد جزمت محكمة مقاطعة لاهاي انه وان كان بامكان المحكم أن يبتعد خلال المداولات التحكيمية عن دوره كمحام في دعوى الابطال، فإنه سوف يستحيل عليه أن يتجنب الظهور وكأنه غير قادر على الفصل بين دوري المحامي والمحكم.

   وفي قضية أخرى (فيتوغالو ضد كندا) مقامة طبقاً لقواعد الاونسيترال واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (النافتا)، توصل الأمين العام المساعد لـ ICSID إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها محكمة لاهاي، حيث أنه طلب في قرار صادر في 14 اكتوبر (تشرين الأول) 2009 من المحكم المعين من قبل كندا أن يختار بين تولي مهمة التحكيم أو الاستمرار في تقديم المشورة إلى المكسيك. وإذ اشار الأمين العام المساعد إلى أن المسألة لا تتعلق بما إذا كان المحكم المطلوب رده يمكن أن يجمع بين العمل كمحكم وكمحام بقدر ما تتعلق بماهية الطرف الذي تقدم اليه المشورة وكذلك موضوعها، لاحظ أن المحكم يقدم المشورة للمكسيك الدولة الطرف في اتفاقية النافتا والمشارك المحتمل في الدعوى التحكيمية بموجب المادة 1128 من الاتفاقية، وفي مسائل تقع ضمن إطار القانون الدولي للتجارة وقانون الاستثمار. وختم الأمين العام المساعد:

   "بقيامه بمهام عضو في هيئة تحكيمية في تحكيم يتعلق بالنافتا ويشمل دولة طرف في النافتا، وبقيامه في الوقت نفسه بمهمة محام لدولة أخرى طرف في النافتا لها الحق القانوني في المشاركة في الإجراءات التحكيمية، يخاطر المحكم بشكل محتوم في إثارة شكوك مشروعة حول حيدته واستقلاليته".

 

   لقد أثارت القضايا المفصلة أعلاه جدلاً مشروعاً حول صواب قيام محكم ما في مجال الاستثمار بممارسة نشاط مواز كمحام في المجال نفسه.

    وقد تخوف دعاة الفصل بين النشاطين من إمكانية قيام محكم باتخاذ خطوات مدروسة خلال العملية التحكيمية أو بتبني حلولاً قانونية في الحكم التحكيمي تصلح أن تشكل سوابقاً قد يستخدمها في تحكيم آخر مواز يمارس فيه مهمة المحامي لكي يؤثر في نتائج هذا التحكيم.

   أما معارضو الفصل بين النشاطين فهم يشيرون إلى أن المحكم المهني لا يتأثر عادة بعوامل لا علاقة لها بالنزاع المعروض أمامه. ويحذر معارضو الفصل من أنه في حال اتخاذ قرار الفصل بين النشاطين فان عالم التحكيم قد يفقد محكمين اكفاء قد يختارون مهنة المحاماة.

    ومهما يكن من أمر، فان معظم دعاة الفصل يقرون بأن الفصل لا يمكن أن يكون آنيا ولا بدّ من أن تسبقه فترة انتقالية. ومن جهة أخرى، فان معظم دعاة الجمع بين مهام المحكم والمحامي يقرون بأن وضع بعض الضوابط قد يكون ضرورياً لتجنب التعارض الفج للمصالح. وفي المحصلة، فإن الموقفين لا تفصل بينهما هوة لا يمكن ردمها.

 

 خاتمة:

    لا ريب ان عالم التحكيم يتغير بسرعة، وان بعض الممارسات في تعيين المحكمين التي لم تكن تواجه اعتراضات منذ خمس وعشرين سنة باتت تثير الريبة اليوم. والملاحظ ان رقابة الرأي العام قد ازدادت ازدياداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، كما ان أصواتاً عديدة تطالب علناً بالمزيد من الشفافية في هذا المجال. في هذا الجو المليء بتحديات غير مسبوقة، ينبغي التساؤل عن الخيارات المتاحة لمراكز التحكيم. ويمكننا حصر هذه الخيارات في الخيارات الثلاثة التالية.

   الخيار الأول يقضي بحظر ارتداء القبعات المتعددة، بصفة خاصة في التحكيم في مجال الاستثمار. وقد تم تبني هذا الخيار من قبل بعض المؤسسات. فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة العدل الدولية في فبراير (شباط) 2002 توجيهاً عملياً مفاده انه لا يستحسن في شخص يعمل (أو عمل حديثا) كوكيل أو كمحام في قضية أمام المحكمة أن يجلس كقاض خاص من غير أعضاء المحكمة (Judge ad hoc) في قضية أخرى. وفي وقت لاحق، في أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قررت محكمة التحكيم الرياضية ان تمنع ان يكون الشخص محكماً مقيداً لديها، وان يمثل في الوقت نفسه كمحام. وقد بررت محكمة التحكيم الرياضية قرارها برغبتها في تفادي مخاطر تعارض المصالح، وفي الحد من طلبات رد المحكمين أثناء الاجراءات التحكيمية.

    وفي حالة عدم رغبة مراكز التحكيم في تبني التوجه المتشدد الذي يتضمنه الخيار الأول، ففي إمكانها أن تعتمد خياراً ثانياً يقضي بدعم الالتزام بواجب الافصاح المفروض على المحكم ليس في بداية الاجراءات التحكيمية فحسب، ولكن أثناء تلك الاجراءات. وهذا مافعله كل من المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) سنة 2006 والمحكمة الدولية للتحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية (ICC) سنة 2012 عندما قام كل منهما بمراجعة قواعد التحكيم لديه.

   إن افصاح المحكم عن أي تعارض محتمل للمصالح قد يعتبر الحل الأنسب في حالات عديدة، لكنه لا يعتبر كافياً في حالات أخرى. لنفترض مثلاً أن طرفاً قرر الا يشارك في الإجراءات التحكيمية او اختار محامياً لايملك الخبرة الكافية في مجال التحكيم لتمثيله، ولنفترض كذلك ان الطرف الآخر عين محكماً لا تتوافر فيه صفات الحيدة والاستقلالية المطلوبة. ان تقيد المحكم في حالتنا هذه بواجب الافصاح قد لا يكفي للمحافظة على حقوق الطرف الذي لم يعينه. لذا ينبغي توافر ضوابطاً موضوعية وإرشادات يتم التقيد بها بغض النظر عن امكانية اثارتها من قبل الأطراف، بحيث لا يترك أمر التصدي لحالات تعارض المصالح للأطراف وممثليهم دون أية مبادئ حاكمة.

   في وقت ترتفع فيه أصوات عديدة تناشد مراكز التحكيم لكي تؤدي دوراً أكبر في عملية تعيين المحكمين، يتوجب على تلك المراكز أن تتخذ الإجراءات الضرورية التي قد تخولها أن تؤدي دوراً محورياً في المستقبل. ومع علمنا أنه لا يوجد اجماع حول هذا الموضوع، نعتقد أنه يتوجب على مراكز التحكيم أن تأخذ المبادرة في وضع قواعداً ومبادئ ترعى موضوع تعارض المصالح، بحيث تضع حداً للتسيب الحاصل وتعيد إلى التحكيم ثقة كل الأطراف به، وبالتالي رونقه. وهذا الخيار الثالث هو الخيار الذي نحبذه.

   وبالإضافة إلى دورها في وضع قواعداً ومبادئ ترعى تعارض المصالح، على مراكز التحكيم أن تضع معاييراً واضحة لعملية اختيار المحكمين من قبلها، بحيث يتم في نهاية المطاف اختيار محكمين مؤهلين وحياديين ومستقلين على أساس الكفاءة. كما ينبغي على مراكز التحكيم أن تراعي التنوع في اختيار المحكمين. ومن غير المستبعد أن تتوافر في المستقبل قوائماً تحتوي على أسماء عدد كبير من ذوي الاختصاص والكفاءة الذين يرغبون في العمل حصرياً كمحكمين دون ارتداء قبعة أخرى، وان تختار مراكز التحكيم المحكمين بصفة أساسية من تلك القوائم.

   وتجدر الإشارة إلى أنه عندما يتم تناول مسألة تعارض المصالح، قد يتبادر إلى الذهن انها تقتصر فقط على المحكمين وممثلي الأطراف، في حين انه يجب أن يتسع نطاقها ليشمل القائمين على إدارة القضايا في مراكز التحكيم. والمعلوم أن هؤلاء غالباً ما يعملون قبل ذلك أو بعد ذلك في مكاتب محاماة متخصصة بشؤون التحكيم. ويجب بالتالي التأكد من عدم انتفاع أي طرف انتفاعا غير مشروع من جراء عمل القائمين على إدارة القضايا في مراكز التحكيم.

     وفي الختام، لا يسعنا الا أن ننهي عرضنا بالتركيز على ضرورة أن تسير مراكز التحكيم على درب الاصلاح، وأن تضع الضوابط والقواعد الضرورية لتنظيم التحكيم. وهي بفعلها هذا، تكون قد قامت بعملها على أكمل وجه ممكن وزادت ليس فقط من مصداقيتها، بل أيضاً من شرعيتها تجاه كل أطراف العملية التحكيمية.