فخر واعتزاز ما حققته دبي كمركز هام للتحكيم التجاري في المنطقة، وذلـك مـن خـلال مركزي تحكيم وليس مركز واحد. إلا أن الفخر الذي شعرت به حتى وقت قريب، وأنـا أشـاهد مركز دبي للتحكيم الدولي ومركز تحكيم مركز دبي المالي بالمشاركة مع محكمة لندن للتحكـيم الدولي، وهما يتقدمان في المنطقة، بصورة تجسد بنجاح مشهد التحكيم في أفضل حالاته، بالرغم من الآراء المختلفة والمتناقصة والوصول التشريعي، يتجاوز حدود التعبير.
وكان لمركز التوفيق والتحكيم التجاري الذي أنشئ عام 1994 لجنة تديره مـشكلة مـن 5 أعضاء من مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة دبي. حيث كان يترأس اللجنة السيد خليفة جمعـة النابوده الذي كان من أشد المؤيدين للتحكيم كحل بديل للنزاعات، كما كان عازماً على الانتقـال بممارسة التحكيم إلى المستوى التالي حيث كانت الرؤية تتمثل في إنشاء مركـز دبـي للتحكـيم الدولي كمؤسسة مستقلة ومستمرة وغير ربحية بهدف تقديم خدمات التوفيق والتحكيم حصراً إلـى مجتمعات الأعمال الإقليمية والدولية بأسعار معقولة.
مركز دبي للتحكيم الدولي:
قبل انضمام دولة الإمارات العربية المتحدة إلى اتفاقية نيويورك عـام 1996، كـان تنفيـذ الأحكام الأجنبية أمام المحاكم الإماراتية، باستثناء تطبيق الاتفاقيـات الثنائيـة أو غيرهـا مـن الاتفاقيات متعددة الأطراف، رهناً بتطبيق المادة رقم 235 من القانون الاتحادي رقـم 11 لـسنة 1992 (قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة) الذي يحكـم تنفيـذ الأحكـام الأجنبية في دولة الإمارات العربية المتحدة. ولقد كان انعدام الثقة في التحكيم شائعاً بين غالبيـة الممارسين القانونيين في دولة الإمارات العربية المتحدة والمحاكم الإماراتية، خاصة فكرة التنازل عن الاختصاص لمحكمين أجانب، ومن هنا كان إقناع حكومة الإمارات العربية المتحدة بتوقيـع اتفاقية نيويورك إنجازاً عظيماً، كما كانت مبادرة إنشاء مركز دبي للتحكيم الدولي مبادرة شجاعة.
كان لدى مركز دبي للتحكيم الدولي عام 2005 مدير ومجلس أمناء قيد الإنشاء إلى جانـب وضع مسودة القواعد. وقد افتتح مركز دبي للتحكيم الدولي، ليحل بذلك محـل مركـز التوفيـق والتحكيم التجاري السابق، في مايو 2003. وأصبح الآن مركز التحكيم الأكثر انشغالاً في منطقة الخليج. ولقد أصدر مركز دبي للتحكيم الدولي قواعد التحكيم الخاصة به ("قواعد مركـز دبـي للتحكيم الدولي")، المطبقة على جميع قضايا التحكيم في المركز اعتباراً من 7 مايو 2007، لتحل بذلك محل قواعد غرفة تجارة وصناعة دبي الخاصة بالتوفيق والتحكيم التجـاري لـسنة 1994 ("قواعد غرفة تجارة وصناعة دبي") التي صيغت أساساً بوضع التحكيم المحلي بعين الاعتبـار. وعند إنشاء مركز دبي للتحكيم الدولي عام 2003 كان عدد الدعاوى 34 دعوى، إلا أنها وصلت إلى 60 دعوى عام 2005 على ما أذكر، ومن ثم تم تسجيل أكثر من 200 دعوى عـام 2009. ووصل عدد الدعاوى إلى ذروته عام 2011 لتصل إلى 440 دعوى خلال الأزمة العقارية فـي دبي، ثم عاد عدد الدعاوى للانخفاض إلى 310 دعاوي سنة 2013.
مركز دبي المالي العالمي- محكمة لندن للتحكيم الدولي:
في 2008 دخل مركز دبي المالي العالمي في مفاوضات مع محكمة لندن للتحكيم الدولي وتم توقيع اتفاقية تدار بموجبها دعاوى التحكيم بموجب قواعد مركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الدولي بمساعدة من محكمة لندن للتحكيم الدولي. وقد تم تأسيس مركز تحكيم مركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الدولي ("مركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكـيم الدولي" أو "المركز") سنة 2008 ووصفه في حينه كبير القضاة سير أنتوني إيفانز بـ "مـشـروع مشترك بشكل جوهري بين مركز دبي المالي العالمي ومحكمة لندن للتحكيم الدولي، وهي واحدة من أبرز الجهات القيادية في عالم التحكيم". ولقد استنبطت قواعد التحكيم والمـصالحة لمركـز تحكيم مركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الدولي من قواعد محكمة لنـدن للتحكـيم الدولي، مع بعض التعديلات الطفيفة لمواءمة احتياجات مركز تحكيم مركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الدولي. ولقد ساهم أدريان وينستاتلي، المدير العام لمحكمة لنـدن للتحكـيم الدولي، شخصياً في عملية تعديل القواعد.
وقد أقيم حفل فعاليات الإطلاق في 17 فبراير 2008، وافتتح مركز دبي المالي العـالمي محكمة لندن للتحكيم الدولي من قبل صاحب السمو الشيخ مكتوم بن محمد بن راشد آل مكتـوم، نائب حاكم دبي. ولقد أغلق المركز خلال فترة قصيرة في العام 2008 بـسبب قـضايا تتعلـق بالدستورية والوصول إلى الاختصاص لمركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الـدولي وقدرته على تقديم خدمات إلى الإمارات العربية المتحـدة وشـركات أخــرى تأسـسـت خـارج الاختصاص الإقليمي لمركز دبي المالي العالمي. وفي عام 2014 تمت معالجة تلك القضايا عـن طريق إصدار تشريع لتعديل وإعادة هيكلة مركز دبي المالي العـالمي بحيـث توضـع نهايـة للاعتراضات التقنية على مركز دبي المالي العالمي - محكمة لنـدن للتحكـيم الـدولي. وبتنفيـذ الخطوات التشريعية، عقب ترتيبات إعادة التفاوض بين محكمة لندن للتحكيم الدولي وسلطة حـل النزاعات لمركز دبي المالي العالمي، تم العمل على إعادة إطلاق مركز دبي المـالـي العـالمي محكمة لندن للتحكيم الدولي، ثم أعيد افتتاحه العام الماضي بقواعد تحكيم جديدة (قواعـد 2016) بحيث تحل محل قواعد التحكيم السابقة لمركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الـدولي التي وضعت عام 2008 اعتباراً من أو بعد 1 أكتوبر 2016.
ومع البداية القصيرة لمركز دبي المالي العالمي - محكمة لندن للتحكيم الدولي وإعادة إطلاقه قبل فترة ليست طويلة، يبدو أن عدد الدعاوى لم يكن بارزاً ليتم نشره، إلا أن محكمة لندن للتحكيم الدولي ذكرت عام 2016 أن عدد الدعاوي بلغ 28 بين إجراءات مفتوحة وتحكيم وغيرها. وكان من بين أعضاء مجلس أمناء مركز دبي المالي العالمي- محكمة لندن للتحكيم الدولي سيدة، وهي جاكي فان هايروسلت- فأن هوف (المدير العام لمحكمة لندن للتحكيم الدولي).
ويبدو أن دواعي القلق التي كانت لدينا منذ سنوات بشأن العدد المحدود مـن الأحكـام ذات الصلة بالتحكيم بموجب قانون دولة الإمارات العربية المتحدة وعدم التيقن من كيفية تطبيق تلـك الأحكام من قبل المحاكم في التصديق على قرارات التحكيم أصبحت الآن أخف وطأة مقارنة بما قررته دولة الإمارات العربية المتحدة فجأة من إحداث تغيير في قـانون العقوبـات فـي دولـة الإمارات العربية المتحدة رقم 3 لسنة 1987، المعدل بموجب المرسوم الاتحادي رقـم 7 لسنة 2016، بإضافة المحكمين إلى الخبراء والمترجمين في المـادة 257 حيـث تـفـرض مـسؤولية جنائية على من يصدر قرارات وآراء تتعارض وواجبـات الحياديـة والاستقلالية المفروضـة عليهم.
من أين جاء هذا التعديل؟ هل هو نتيجة لعدم وجود مبادرات تنظيمية ضرورية لكي تعتبـر الممارسة قانونية أو قد تكون نوعية المحكمين المدرجة في قوائم مراكز التحكيم؟ أم أنها تتعلـق بحقيقة أن التحكيم لا يسير كما ينبغي؟ ما الشيء الذي سار على نحو خاطئ؟ "هل كـان الـحـل البديل للنزاعات مبادرة لم يكتب لها البقاء؟ اننا نؤمن بأنه لم يكن كذلك، ولكن عدم النجـاح مـع الحل البديل للنزاعات في العديد من الشركات دفعنا إلى إلقاء نظرة أكثر قرباً على كيفيـة تنفيـذ المدراء لعملية الحل البديل للنزاعات". أخذ هذا الاقتباس من (تقرير هارفرد بزنس ريفيو حـول الحل البديل للنزاعات)، الذي وجد أن الحل البديل للنزاعات، كما يمارس حالياً، كثيراً ما يتحـول إلى نظام قضائي خاص على ما يبدو ويكلف مثل التقاضي الذي من المفترض أنه يمنعه. وفـي العديد من الشركات، تشمل إجراءات الحل البديل للنزاعات في الوقت الحاضر عادة الكثير مـن الأمتعة الزائدة على شكل طلبات ومذكرات واكتشافات وإفادات وقضاة ومحـامين ومراسـلين قضائيين وشهود خبرة ودعاية وأحكام بتعويضات تتجاوز المعقول (وتتجاوز الحدود التعاقدية).
فالمبادرة التنظيمية المذكورة في دولة الإمارات العربية المتحدة التي باغتت السوق القانونية برمتها على حين غرة، على الرغم من الدعوات المهدئة التي وعدت بأن النيابـة العامـة فـي الإمارات تلقت دعاوى ضد المحكمين، و قد رفضت تلك الادعاءات بالفعل، إلا أن دعوات التهدئة لم تمنع عدداً من المحكمين من رفض التعيين، كما أنها حتى لم تكن نهاية الملحمة، بـل تلاهـا أواخر العام الماضي مرسوم دبي رقم 19 لسنة 2016 بإنشاء لجنة قضائية جديدة في دبي، تتمتع بصلاحية الفصل في النزاعات حول الاختصاص بين المحاكم الداخلية ومحاكم مركز دبي المالي العالمي لبت الأحكام المتضاربة بين الاثنتين. وتتألف اللجنة من سبعة أعضاء: ثلاثة قضاة مـن محاكم مركز دبي المالي العالمي، وثلاثة قضاة من محاكم دبي والأمين العام للمجلس القضائي بدبي، مع رئيس محكمة التمييز في دبي (أحد قضاة محكمة دبي الثلاثة) الـذي يمتلـك صـوتاً ترجيحياً. ولقد تم تأسيس اللجنة بعد سلسلة من الأحكام التي نشرت مؤخراً، حيث أكدت محكمـة مرکز دبي المالي العالمي أن قانون مركز دبي المالي العالمي يسمح باستخدام محكمة مركز دبي المالي العالمي كـ "قناة" لإنفاذ قرارات التحكيم الأجنبية والمحلية على حد سواء ضـد المـدينين الذين يصدر بشأنهم قرار حكم والمتواجدين داخل دبي، حتى وإن لم تكن هنالك صلة بين المدين الذي يصدر بشأنه قرار/حكم ومركز دبي المالي العالمي مهما كان.
هل هذا ما يمكن أن نسميه محاولة انتحار، كما يختار العديد مـن الممارسـين أن يـسميه بالفعل؟ أم أن هذه خطوة في الاتجاه الصحيح للآلية التنظيمية التي تمهد الطريق لممارسة التحكيم الذي سيبرز بصورة فردية كنظام جديد قادر على التعامل مع من يؤمن ومن لم يـؤمن بالحـل البديل للنزاعات ومن ينكر وجوده أساساً؟