إن تأثير القضاء على التحكيم من المواضيع المتجددة، فلا يكاد يمضي وقت إلا ويلوح فـي الأفق حكم قضائي مؤثر على التحكيم سواء بالسلب أو بالإيجاب. وأسباب صدور الأحكام المثيرة للجدل بين الحين والآخر- متنوعة، منها ما هو مرتبط بالتشريع الوطني وقصوره في الإلمـام بجوانب التحكيم المختلفة، وأخرى باجتهادات القاضي الوطني فـي تفـسير نصوص القـانـون وتحميلها فوق ما تحتمل، وتارة ثالثة قد تكون المشكلة في الإتفاقية الدولية التي تحكـم القاض الوطني، وتقيده من خلال بعض النصوص القاصرة أو المبهمة، مما ينعكس سلباً ويؤثر في أحكام القضاء الوطني. ،
ففي دولة الإمارات العربية المتحدة التي يحكم التحكيم فيها بعض المواد الواردة في قـانون الإجراءات المدنية، والتي مضى على صدورها قرابة ربع قرن نجد أن جل المشاكل التي تواجه تقدم التحكيم يكمن في قراءة هذه المواد تارة، وفي تفسيرها من قبل المحاكم الوطنية تارة أخرى، خصوصاً من جهة تطبيقها وإعمالها بشكل مطلق سواء كان التحكيم وطنياً أو أجنبياً.
كما أن غياب مفهوم التحكيم الدولي من ضمن نصوص القانون الحالي قاد إلى الخلط وعدم التفريق بين القواعد التي يجب أن تحكم التحكيمات الوطنية، وتلك التي تحكم التحكيمات الأجنبية والدولية على النحو الذي سينجلي في الأمثلة التي سنسوقها لاحقاً في هذه الدراسة.
تنص المادة (4/212) من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي على ما يلي:
"ويجب أن يصدر حكم المحكم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وإلا إتبعت فـي شـأنه القواعد المقررة لأحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي".
والمقصود بالقواعد المقررة لأحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي، تلك القواعد والشروط الخاصة بتنفيذ الأحكام والأوامر والسندات الأجنبية، وفق ما هو منصوص عليه في المادة (235) من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي، حيث نصت المادة (236) من القانون المذكور على مـا يلى:
"يسري حكم المادة السابقة على أحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي، ويجب أن يكـون حكم المحكمين صادراً في مسألة يجوز التحكيم فيها طبقاً لقانون الدولة، وقابلاً للتنفيذ في البلـد الذي صدر فيه".
من الواضح والبين أن المادة (4/212) المنوه عنها سلفا قد صنفت أحكام التحكـيم صنفين: إما محلي (وطني)، أو أجنبي، ولا أثر لمفهوم التحكيم الدولي مـن حيـث التعريـف والمعايير التي يمكن من خلالها تكييف التحكيم بأنه دولي، على الرغم من أن دولة الإمـارات العربية المتحدة تعد الدولة العربية الأهم في احتضان الإستثمارات الأجنبية، بل تعـد المركـز المالي الأهم في منطقة الشرق الأوسط، وحري بالمشرع الإماراتي أن يدرك أهمية أن تكـون الدولة محل استقطاب التحكيمات الدولية، ولكن في ظل هذا الفراغ التشريعي سيتـضـح مـن خلال بعض الأمثلة الآثار السلبية المترتبة من غياب مفهوم التحكيم الـدولي علـى منظومـة التحكيم في دولة الإمارات آملين تدارك هذه النقطة الحساسة في مشروع قانون التحكيم المأمول صدوره .
معايير دولية التحكيم:
يختلف التنظيم القانوني لكل من التحكيم الدولي والتحكيم الداخلي (الوطني)، كما يتباين هـذا الاختلاف ويتجلى في عدة صور من حيث قدره أطراف التحكيم على الإتفاق بوضع القواعد التي تنظم التحكيم من ناحية تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءاته أو القانون المطبق على موضوع النزاع، إضافة إلى قابلية حكم التحكيم في كليهما للطعن عليه ، وهناك عدة معايير للتفرقة بـيـن نـوعي التحكيم منها:
1- المعيار القانوني: بموجب هذا المعيار يكون التحكيم دولياً حينما تكون العناصر القانونية للعقد على إتصال بأكثر من نظام قانوني كمكان التحكيم أو محل إقامة أطراف التحكـيم أو جنسياتهم أو جنسيات أعضاء هيئة التحكيم أو القانون واجب التطبيق على موضـوع النزاع أو إجراءاته.
2- المعيار الإقتـصـادي: يعد القضاء الفرنسي الرائد في وضع معالم هذا المعيـار، وتبعـاً لهذا المعيار فإن التحكيم يعتبر دولياً، إذا تعلق العقد بمصالح التجـارة الدوليـة، التـى تعنـى بكل نشاط اقتصادي دولي كإنتقال الأموال والخدمات من بلـد لآخـر أو فيمـا بينهما.
معايير أجنبية حكم التحكيم:
هنالك عدة معايير لاعتبار حكم التحكيم أجنبياً سنستعرض الأهم منها مع بيان موقف إتفاقية نيويورك للإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لسنة 1958م.
1- المعيار الجغرافي: يذهب أيضاً هذا المعيار إلى أن مكان صدور حكم التحكيم، والحيـز الإقليمي الذي صدر فيه يعتبر معياراً مهماً لتحديد مدى أجنبية حكم التحكيم، كـصدور حكم التحكيم على إقليم دولة غير تلك التي يراد تنفيذ حكم التحكيم فيهـا، فعنـد ذلـك يكون الحكم أجنبياً وتسري عليه القواعد الخاصة بـأحكام التحكيم الأجنبيـة فـي بلـد التنفيذ.
- هل من تأثير لعدم ذكر مكان صدور حكم التحكيم في الحكم؟
إختلف فقهاء القانون في ذلك، ولكن الرأي أن إغفال ذكر مكان صـدور الحكـم لا يؤدي إلى بطلانه وتكون العبرة بالمكان الذي وقع فيه ولا عبرة للمكان الذي عقدت فيه المداولة أو حرر فيه الحكم.
2- المعيار الإقتصادي: وفقاً لهذا المعيار، فإن العبرة بتعلـق النـزاع موضـوع التحكـيم بمصالح التجارة الدولية، حيث يعتبر التحكيم دولياً بصرف النظر عن مكان التحكيم أو جنسية أطرافه أو القانون المطبق على الإجراءات، إذ يقوم هذا المعيار في الأساس على فكرة تحديد طبيعة النزاع ما إذا كان يمس ويتعلق بمصالح التجارة الدولية، أي أنه يمس مصالح أكثر من دولة، فإن التحكيم بناء عليه يكون دولياً.
3- معيار الإجراءات المطبقة على التحكيم: يقوم هذا المعيار على أساس قانون الإجراءات المطبق على التحكيم فهو وطني إذا طبق على نزاع التحكيم قانون الإجراءات الـوطني لدولة ما، فهو وطني لتلك الدولة حتى ولو صدر حكم التحكيم خارجها.
أما إذا طبق على التحكيم قانون إجراءات أجنبي وصدر الحكم في دولة ما، فهذا الحكم يعد أجنبياً بالنسبة للدولة التي صدر حكم التحكيم فيها.
- موقف إتفاقية نيويورك من المسألة:
تنص المادة (1/1) من إتفاقية نيويورك على ما يلي:
"تطبق هذه الإتفاقية على الاعتراف بقرارات التحكيم الصادرة في الدول غير الدولـة التـي يراد تنفيذ تلك القرارات لديها، والناشئة عن المنازعات القائمة بين الأفـراد، طبيعيـة كـانـت أم قانونية، كما تنطبق أيضاً على قرارات التحكيم التي لا تعتبر قرارات محلية لدى الدولة المـراد تنفيذ تلك القرارات لديها".
إذاً، فالإتفاقية تعتد بالمعيار الجغرافي من جهة، كما أنها فسحت المجال للدول الأعضاء من تكييف وتصنيف التحكيمات لديها، بحيث أنها قررت أنه علاوة على أن حيّـز تنفيـذهـا يـشمل قرارات التحكيم الأجنبية، فهي أيضاً تنطبق على القرارات التي لا تعتبر محلية في الدولة المراد تنفيذ تلك الأحكام لديها (المعيار الإقتصادي، وهو معيار دولية التحكيم).
- موقف المشرع الإماراتي من المعايير السابقة:
لقد إعتد المشرع الإماراتي، وكما هو واضح من الفقرة الرابعة من المادة (212) من قانون الإجراءات المدنية بالمعيار الجغرافي أساساً للتفريق بين التحكيم الوطني والآخر الأجنبي، فخـلا التشريع من أي إشارة لمفهوم التحكيم الدولي، وفقاً للمعيار الإقتصادي، الأمر الذي رتب العديـد من الإشكاليات العملية حينما يتم اللجوء إلى تنفيذ أحكام المحكمين في دولة الإمارات.
فالتحكيم بمنظور المشرع الإماراتي وطني، إذا صدر في دولة الإمارات بصرف النظر عن جنسية الأطراف والمحكمين أو القانون المنطبق على العلاقة من ناحية الإجراءات والموضـوع، كما أن التحكيم أجنبي طالما صدر خارج دولة الإمارات بصرف النظر عن العناصر القانونية ما إذا كانت مرتبطة بدولة الإمارات أكثر من غيرها.
إن الإشكالية المترتبة على إعتماد دولة الإمارات العربية المتحدة على المعيـار الجغرافـي لتحديد نوع التحكيم، وبالتالي الآثار المترتبة عليه، ولاسيما إجراءات تنفيذه في الدولة تعد إشكالية جديرة بإعادة النظر فيها، فكم من تحكيم وطني كلف أطرافه مصاريف إضافية لا لشيء إلا لأن القانون الإماراتي يلزم هيئة التحكيم توقيع الحكم في دولة الإمارات حتى تتجنب الهيئـة بطـلان الحكم لو تم توقيعه خارج الدولة.
وكم من تحكيم دولي عقد في دولة الإمارات، وأبطل حكم التحكيم، لأن الهيئة لم تعمل قواعد الإجراءات الوطنية على التحكيم الدولي، وبالتالي خالفت القواعد الآمرة للقوانين الإجرائيـة فـي دولة الإمارات، مما استدعى صدور حكم قضائي ببطلان حكم التحكيم، على الرغم من أن معايير التحكيم الدولي منطبقة على الموضوع، والشاهد على ذلك قضية (بكيتـل) المـشهورة ، التـي جمعت طرف إماراتي في مواجهة شركة أمريكية، وقد صدر حكـم التحكـيـم لـصالح الـشركة الأمريكية (بكيتل)، وعندما تقدمت الأخيرة بدعوى التصديق على الحكم أمام محاكم دبـي، أقـام الطرف الآخر (الطرف الإماراتي) دعوى متقابلة طالبا القضاء ببطلان حكـم التحكـيم لمخالفـة المحكم القواعد الآمرة الواردة في قانون الإجراءات المدنية الإماراتي، حيث انتهى حكم محكمـة تمييز دبي إلى ما يلي:
"وكان الثابت أن المحكم الذي أصدر الحكم محل النزاع الماثل قد إستمع لشهادة الشهود دون أن يؤدوا اليمين، مما ترتب عليه إبطال إجراءات التحقيق بطلاناً أثر في الحكم، إذا أقام المحكـم قضاءه على ما شهد به هؤلاء الشهود الذين لم يؤدوا اليمين قبل الإدلاء بأقوالهم، ومن ثـم فـإن الحكم الصادر بناء على هذه الشهادة يكون قد وقع باطلاً، ولا يغير من ذلك أن المحكـم، وفقـاً للمادة (212) من القانون المذكور، يصدر حكمه غير مقيد بإجراءات المرافعات، إذ إستثناء هـذا النص من تلك الحالات التي نص عليها القانون في باب التحكيم، ومنها وجوب حلـف الـشهود لليمين الواردة في المادة (211) منه، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بتأييد الحكم الإبتدائي فيما قضى به ببطلان حكم المحكم محل النزاع، فإنه لا يكون قد خالف القانون أو أخطأ في تطبيقه ويكون النعي عليه بما سلف على غير أساس، مما يتعيّن رفضه".
وقد يعد حكم (بكيتل) الشهير صحيح من ناحية أن المشرع الإماراتي لا يعتـد إلا بالمعيـار الجغرافي، وعليه طالما كان التحكيم منعقداً في دولة الإمارات، والقانون المنطبق على الإجراءات والموضوع هو القانون الإماراتي، بل أن نظام مركز التحكيم كان نظام غرفة التجارة في دبـي، لذا فإن الحكم صحيح من جهة أن المحكم خالف قاعدة آمرة ترتب عليه البطلان بعـدم تحليـف الشهود اليمين.
ولكن قصور المشرع الإماراتي يكمن في عدم الأخذ بالمعيار الإقتصادي وهو معيار دوليـة التحكيم، مما يجعل التشريع في دولة الإمارات بعيداً عن الركب العالمي، فلـو اعتـد المـشرع الإماراتي بذلك المعيار لاتضح أن قضية (بكيتل) تمس بمصالح التجارة الدولية مباشـرة، فهـ قضية بين طرف إماراتي وآخر أجنبي ترتبط بمصالح التجارة الدولية، من منطلـق أن الطـرف الأجنبي نقل إلى دولة الإمارات تجارته وخبراته وخدماته في مقابل الأموال التي كانت يجـب أن تحول من الإمارات إلى بلد الطرف الأجنبي، الأمر الذي يؤكد وجود نـشاط إقتـصـادي متعلـق بإنتقال الأموال والخدمات ما بين بلد وآخر، وعليه لو أخذ المشرع بهذا المعيار لما قررت محكمة تمييز دبي إبطال حكم التحكيم المذكور على النحو السالف ذكره.
وأخيراً، فإن أخذ المشرع الإماراتي بالمعيار الجغرافي سيضر بـالمجتمع القانوني لدولـة الإمارات الذي يسعى لأن يكون مجتمعاً جاذباً للتحكيم الدولي نظراً للمزايا التي تتمتع بها دولـة الامارات من ناحية القوانين والبنية التحتية والموقع الجغرافي، ولكن قصور التشريع عن التعريف بالتحكيم الدولي سيقود الأطراف إلى عقد تحكيماتهم خارج الدولة حتى لا يصطدموا بالقـانون الإماراتي عند الحاجة إلى تنفيذ أحكامهم أمام المحاكم الوطنية لدولة الإمارات الأمر الذي يـؤثر سلبا على إعتبار الإمارات بيئة حاضنة للتحكيم.
الخلاصة:
بناء على ما سبق ذكره، فإن المشاكل العملية التي يواجهها أطراف التحكيم، والتي غالبا ما تكون سبباً في عرقلة تنفيذ أحكامهم في دولة الإمارات العربية المتحدة تكمن في غيـاب مفهـوم دولية التحكيم وقصور التشريع الإماراتي في الأخذ بالمعيـار الإقتـصادي وإكتفـاءه بالمعيـار الجغرافي كأداه للتفريق بين التحكيم الوطني والأجنبي، الأمر الذي رتب آثاراً سلبية ومـشاكل عملية على النحو الذي فصلناه آنفاً، والمأمول أن يتدارك المشرع الإماراتي هذه الإشكاليات فـي مشروع قانون التحكيم المزمع صدوره مستقبلاً.