التحكيم / التحكيم الوطني والتحكيم الدولي / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 7 / البت في النزاع بسرعتين في مجال التحكيم في المغرب (الدولي والداخلي)
يعتبر التحكيم في مجال الأعمال طريقة عادية لحل النزاعات التي يمكن أن تحدث بين الأطراف في العلاقات التعاقدية سواء كانت دولية أو داخلية.
وقد تطور التحكيم بسرعة باعتباره وسيلة فعالة لفض النزاعات في مجال التجارة الدولية، حيث يتميز بتخصص المحكمين، ومعرفتهم الكاملة بالعادات وآليات التجارة الدولية، وكذلك بمرونة القواعد التي تحكمه، وسهولة تكيفها وملاءمتها مع الحاجيات المرتبطة بالتبادل التجاري الدولي، كما يتميز أيضاً بالسرية في معالجة النزاع، والسرعة في حله، وفي الحصول على قرار التحكيم.
التحكيم والسرعة، التحكيم بسرعتين ومبدأ "اختصاص – اختصاص" في القانون المغربي والمقارن (القانون الفرنسي) تكون النقاط الثلاث التي سنتناولها بالتحليل والدراسة في هذا الموضوع.
1- التحكيم والسرعة:
تعتبر السرعة في فض كل نزاع الركن الأساسي الذي تقوم عليه العدالة، سواء كانت قضائية أو تحكيمية. الا أن التحكيم استمد سمعته من السرعة في حل النزاع بين الأطراف بواسطته، حيث تعمل جميع المراكز الدائمة للتحكيم على تضمين أنظمتها الداخلية قواعد ومقتضيات لجعل مسطرة التحكيم التي تشرف عليها سريعة وفعالة، ومن بين هذه القواعد تلك المتعلقة بالمواد التي تلزم الأطراف، وحتى المحكمين بضرورة احترام آجال خاصة ومحددة، لتفادي كل عرقلة في سير مسطرة التحكيم من طرف الخصوم، وتجنيب المحكمين كل تأخير في القيام بمهماتهم.
لكن وعلى الرغم من هذه المقتضيات التنظيمية، والجهود المبذولة لتطبيقها، فإن التحكيم قد يتعرض لبعض الانحرافات ان لم نقل التقلبات: ففي الوقت الذي بدأ فيه التحكيم يعرف تنظيماً قانونياً ومؤسساتياً، يحاول قضاء الدولة أن يأخذ الاتجاه المعاكس، مما أثر سلباً على بعض المزايا الأساسية التي يتميز بها، ومنها على الخصوص السرعة في الفصل في النزاعات، وجعله يقترب أكثر من النظام القضائي الوطني.
فمسطرة التحكيم أصبحت معقدة وبطيئة نتيجة بعض الممارسات التي يقوم بها عدد من الخصوم أو دفاعهم، تهدف الى تعطيل سير هذه المسطرة، في حين أن الهدف من التحكيم هو التخلص من بطء القضاء العادي، ومسطرته المعقدة. وقد عبر العديد من الاختصاصيين والخبراء في مجال التحكيم عن استيائهم لما آل اليه التحكيم، وتراجعه عن مزاياه الأساسية، مما جعلهم يتساءلون عن طبيعة دور كل من أطراف النزاع والمحكمين في اجراءات دعوى التحكيم، ومعرفة من يتحكم من بينهم في مسارها باعتبار ذلك عنصراً هاماً في تقييم سرعة عملية التحكيم.
وقد تبين أنه بالرغم من وجود شرط التحكيم في العقد، فان ذلك لا يمنع الأطراف من القيام بأعمال من شأنها تأخير عملية تعيين المحكمين، والشروع في اجراءات التحقيق، أو على الأقل الحد من السرعة التي كان من المفروض أن تباشر بها المسطرة، ان لم نقل السعي لتوقيفها بالمرة، بواسطة عدة طلبات ترمي اما الى طلب ادلاء الخصم بعدد من الوثائق حتى يتمكن المحكمون من الاطلاع عليها، أو طلب الاستماع الى عدد من الشهود لا يوجد بعضهم في البلد الذي يتم فيه التحكيم، أو تقديم طلبات تجريح في حق أحد المحكمين، واما الاستقالة المشبوهة لأحد هؤلاء.
كما أن هذه العراقيل لا تقتصر فقط على المرحلة السابقة لصدور قرار المحكمين، وانما يشمل بعضها المرحلة اللاحقة على صدوره. كأن يمتنع الطرف الذي خسر الدعوى من تنفيذ المقرر التحكيمي اختياراً، مما يضطر الطرف الآخر إلى اللجوء الى السلطات القضائية المختصة من أجل الحصول على الصيغة التنفيذية للمقرر، والاستفادة من امكانية التنفيذ الجبري، وعلاوة على ذلك، فان هناك عائقاً آخر يمنع من أن يصبح التحكيم نظاماً متميزاً عن النظام القضائي، ومتجاوزاً لبعض عيوبه، ويتجلى في الفرق الموجود بين مختلف القوانين الوطنية المنظمة للتحكيم، نظرا الى التطور المتباين الذي يعرفه قانون كل بلد على حدة، وما يترتب على ذلك عند تطبيق مبادىء التحكيم، والمشاكل التي يمكن أن يثيرها، فهل يمكن الحديث في هذا الصدد عن ظاهرة التحكيم بوتيرتين أو بسرعتين؟
2- التحكيم بسرعتين:
من المعلوم أن التحكيم الوطني أو الدولي عرف تطوراً مهماً في جميع أنحاء العالم، باعتباره وسيلة مفضلة لفض النزاعات بين الأطراف في التجارة الدولية خاصة، حيث يتوافر لدى كل دولة اما قانون خاص يتعلق بالتحكيم، أو مقتضيات قانونية يتم النص عليها في قانون المسطرة المدنية أو التجارية وتطبق بعض هذه المقتضيات في آن واحد على التحكيم الـداخلي والـدولي، بينمـا يختص البعض الآخر بكل نوع من التحكيم. ومن بين المبادىء المستقر عليها في قوانين التحكيم نجد مبدأ "اختصاص – اختصاص" "Le principe: Compétence-Compétence“، وقد ساعد هذا المبدأ في ازدهار التحكيم الدولي، وجعله بمثابة شبكة من القرارات المستقلة بـذاتها والموازية لتلك المتعلقة بالحل القضائي للعلاقات الدولية الخاصة. غير أن هذا المبدأ الأساسي لا يطبق بنفس الطريقة في جميع الدول. ويقتضي مبدأ "اختصاص – اختصاص" بإعطاء الصلاحية للمحكمـين بتأكيد أو إلغاء عملية تنصيبهم كمحكمين، حسب ما هو ظاهر أو نـاتـج مـن شـرط التحكيم. مما يعني اختصاصهم وحدهم بالتصريح بقبول كل دفع أثير أمامهم مـن طـرف أحـد الخصوم يتعلق مباشرة بالفصل في صحة وجود بند التحكيم.
ويتوافر هذا المبدأ على وجهين: الأول إيجابي ويهم تطبيقه المحكمين، والثاني سلبي يطبق على محاكم الدولة.
1. ويقتضي تطبيق الوجه الايجابي لمبدأ "اختصاص – اختصاص" اختصاص المحكمين وحدهم في بت كل طعن يهم اختصاصهم في النزاع من طرف أحد الخصوم، وذلك استناداً إلى سلطة تنصيبهم كمحكمين، وبدون امكانية مواجهتهم بقاعدة التواجهية التي من شأنها تمكين الخصم من الادلاء بتعليلاته وتقديم البرهان على أقواله، وأوجه دفاعه حول الاختصاص.
2. أما الوجه السلبي لهذا المبدأ، ويطبق أمام محاكم الدولة، فيقتضي أن تمتنع هذه المحاكم عن النظر أو بت أي دعوى تتعلق بوجود الشرط التحكيمي أو صحته، أو في موضوع النزاع مباشرة بالرغم من صحة وجود هذا الشرط ظاهرياً، قبل أن يقول المحكمون كلمتهم فيها. وحسب هذين الوجهين، نجد أن مبدأ "اختصاص – اختصاص"، كما هو متعارف عليه،
- من جهة في القانون الفرنسي المنظم للتحكيم، وبالضبط في الفصل 1458 NCPC والمتعلق بالتحكيم الداخلي والذي ينص على ما يلي: (يجب على محكمة الدولة أن تصرح بعدم اختصاصها عندما يكون النزاع قد رفع على أساس اتفاقية التحكيم أمام الهيئة التحكيمية). غير أن محكمة النقض الفرنسية (الغرفة الأولى) قضت بتاريخ 28 يونيو 1989 في قضية تعرف باسم Eurodif/République Islamique d'Iran ان مقتضيات هذا الفصل تطبق حتى على التحكيم الدولي.
-ومن جهة أخرى، فالمشروع المغربي الجديد لمدونة التحكيم في الفصلين 21 و 22، يخول المحكمين بالأسبقية سلطة الاختصاص في النظر أو بت النزاعات المتعلقة باختصاصهم، لكن تحت الرقابة اللاحقة لمحاكم الدولة، ويجب الأخذ بهذه الأسبقية في مفهومها الزمني وليس في مفهومها التسلسلي، بمعنى أنها تعطي الأولوية في الاختصاص للمحكمين.
فما هو الهدف من تطبيق هذا المبدأ؟
إن الهدف من تطبيق مبدأ "اختصاص اختصاص" هو العمل على منع الخصم الذي لا يريد أن تستمر عملية التحكيم بكيفية عادية الى النهاية من تقديم أي دفع يطعن بمقتضاه في وجود الشرط التحكيمي، أو صحته، وكذلك منعه من اثارة أي طلب يرمي من خلاله إلى الحصول على - " ايقاف مسطرة التحكيم الى حين صدور قرار عن محاكم الدولة حول الشرط التحكيمي.
وتظهر اشكالية تطبيق هذا المبدأ في أن المحاكم التي سوف يرفع أمامها النزاع، يمكن أن تكون محاكم دولة لا يعترف قانونها بالوجه السلبي لمبدأ "اختصاص – اختصاص"، وبالتالي يمكن لهذه المحاكم أن تنظر أو تبت وجود الشرط التحكيمي أو صحته قبل المحكمين اذا تقدم لديها أحد الأطراف بدفع متعلق بهذا الشرط، وقد تصرح ببطلانه، أو قد تنظر أيضاً في بعض الحالات في موضوع الدعوى، وتفصل فيه بحكم. ويكون بذلك اللجوء الى محاكم الدولة موازاة مع سريان مسطرة التحكيم وسيلة تحايلية للمماطلة والتهرب من قضاء التحكيم، أو للحصول على حكم أجنبي غالباً ما سيكون مخالفاً لقرار المحكمين الذي سيصدر بعده.
وفي هذه الحالة فان محاولة تنفيذ هذه القرارات المتناقضة والصادرة من جهة عن قضاء الدولة، ومن جهة أخرى عن قضاء التحكيم من شأنه أن ينتج وضعية معقدة وصعبة يطلق عليها عبارة "نزاع النزاع" (Le contentieux du contentieux) وهي الوضعية التي لم يكن أطراف النزاع يتوقعونها عند إبرام العقد، حتى بالنسبة إلى المختصين منهم في التجارة الدولية.
3- مبدأ "اختصاص – اختصاص" والقانون المقارن:
خلافاً لما هو جار به العمل في القوانين الأوروبية، فإن القانون الفرنسي للتحكيم ومشروع القانون المغربي المتعلق بمدونة التحكيم والذي استأنس به المشروع المغربي، وخاصة الفصلين 21 و 22 منه اللذين ينصان على ما يلي:
الفصل 21 (يتعين على المحكمة التصريح بعدم القبول بناء على طلب أحد الأطراف النظر في نزاع تنظر فيه هيئة تحكيمية بموجب اتفاقية التحكيم.
اذا لم تكن الدعوى قد رفعت أمام الهيئة التحكيمية، يتعين على المحكمة كذلك التصريح بعدم القبول بناء على طلب أحد الأطراف، ولا تثير المحكمة في كلتا الحالتين عدم القبول تلقائياً).
الفصل 22 (اذا نازع أحد الأطراف في مبدأ أو نطاق سلطة الفصل لهيئة تحكيمية أو دفع أحد الأطراف ببطلان اتفاقية التحكيم، بتت الهيئة التحكيمية صحة وحدود ولاياتها بمقتضى أمر غير قابل لأي طعن الا عند الطعن في الحكم التحكيمي وبنفس الشروط. يتعين الدفع بعدم قبول الدعوى أو ببطلان اتفاق التحكيم قبل كل دفاع في الجوهر تحت طائلة عدم القبول).
فهذه الفصول (الفصل الفرنسي والفصلان المغربيان) تعترف صراحة بتطبيق مبدأ "اختصاص اختصاص" حسب وجهه السلبي، حيث ان الفصل 1458 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي والفصلين 21 و22 من المشروع المغربي تنطبق على التحكيم الداخلي والدولي، وتلزم في فقراتها الأولى المحاكم (الفرنسية والمغربية) بأن تصرح في حالة عرض النزاع على هيئة المحكمين بعدم الاختصاص للنظر في وجود شرط التحكيم في العقد الرابط بين الأطراف، بل ان الفقرة الثانية من هذه الفصول تنص على أن القاضي الفرنسي أو المغربي يكون ملزماً بالتصريح بعدم اختصاصه حتى في الحالة التي لم يعرض فيها النزاع بعد على التحكيم، ما عدا اذا كان شرط التحكيم باطلاً بشكل واضح وجلي.
الاجتهاد القضائي: قرار النقض والاحالة.
1) الفرنسي: قرار الغرفة الأولى لمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 1995/5/10 في قضية كوبروداك، والذي جاء فيه: "ان الهيئة التحكيمية تكون وحدها مختصة لبت صلاحية وحدود تنصيبها وولايتها عندما يكون النزاع قد رفع أمامها، ولا يمكن لرئيس المحكمة أن يصرح بأنه ليس هناك مجال لتعيين الحكام لأنه يظهر بوضوح أن الشرط التحكيمي باطل، الا في حالة رفع دعوى أمامه تتعلق بصعوبة في تأسيس الهيئة التحكيمية".
2) المغربي: وقرارات الغرفة التجارية للمجلس الأعلى المغربي
الأول- بتاريخ 2002/2/13 شركة فالترونيك المغرب أمين سيناصر قرار النقض والاحالة والذي جاء فيه ما يلي: "حيث أنه بالرجوع إلى المقال الافتتاحي للدعوى يتبين أن المطلوب في النقض أوضح أن الطاعنة امتنعت عن تنفيذ العقد الذي أبرمته معه بحيث لم تقم بتسديد ما التزمت به لفائدته مما دفع به للجوء إلى القضاء مطالباً بفسخ هذا العقد ....
لكن حيث أنه بالرجوع الى الفصل 8 من هذه الاتفاقية والذي يشترط اللجوء الى التحكيم في حالة وجود نزاع في تنفيذ هذا الاتفاق.. يتبين أن الطرفين اتفقا على اسناد الأمر إلى التحكيم في حالة نشوء نزاع بشأن تنفيذ العقد،
والعقد شريعة المتعاقدين حسب الفصل 230 من ق ل ع ومحكمة الاستئناف عندما قبلت الدعوى التي تقدم بها الطاعن مباشرة الى القضاء متجاوزاً شرط التحكيم الذي التزم به تكون قد خرقت القانون وعرضت قرارها للنقض".
الثاني- القرار عدد 241 بتاريخ 2002/2/13 والذي جاء فيه ما يلي: "حيث أن المحكمة تبين لها من خلال العقد الرابط بين الطرفين أنهما اتفقا على شرط التحكيم لفض النزاع الذي سيحصل بينهما وهي طريقة نظمها المشرع في الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية".
الثالث - القرار عدد 77 بتاريخ 2002/1/16، الذي جاء فيه "أن المحكمة نصت في تعليلاتها على أن الأمر في النازلة يتعلق بالشرط التحكيمي المنصوص عليه في الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية باعتبار أن الطرفين اتفقا في نفس العقد الأصلي على عرض المنازعات التي تنشأ بصدد تنفيذ هذا العقد على المحكم والذي تم تعيينه مسبقاً وهي الحالة المنصوص عليها في الفصل المشار اليه أعلاه والذي يستنتج منه أن شرط التحكيم مدمج في صلب العقد الأصلي فلا يشترط أن يكون في عقد مستقل أو لاحق عنه...." ....
ومن جهة أخرى، فان الفقرة الثالثة من الفصل IV من الاتفاقية الأوروبية لجنيف لسنة 1961 حول التحكيم التجاري الدولي، تمنع على محاكم جميع الدول الموقعة عليها النظر أو بت النزاع المتعلق بوجود أو بطلان أو الغاء شرط التحكيم، الا في حالات وجود أسباب خطيرة تبرر ذلك .
ويظهر من ذلك أن نطاق تطبيق الوجه السلبي لمبدأ "اختصاص – اختصاص" في ظل هذه الاتفاقية الأوروبية هو أوسع بكثير من نطاقه في القانون الفرنسي، والمشروع المغربي لأنه موجه الى جميع قضاة الدول المصادقة على هذه الاتفاقية، وليس فقط الى القضاة الفرنسيين أو القضاة المغاربة، كما جاء في المشروع المغربي. غير أن مقتضياتها لا تطبق الا اذا كان النزاع قد عرض فعلا على المحكمين. وعلى الرغم من ذلك. تبقى مقتضيات القانون الفرنسي والمشروع المغربي والاتفاقية الأوروبية استثناء للقاعدة الجاري بها العمل في نطاق القانون المقارن، اذ أن الحل يبقى بين يدي محاكم الدولة في اتخاذ جميع الاجراءات التي تراها ضرورية والمتعلقة بالنظر في تقدير أو تقويم وجود وصلاحية شرط التحكيم، وذلك في أي وقت كان، سواء قبل عرض القضية على هيئة المحكمين، أو بعده، بدون انتظار صدور قرار المحكمين في هذا الشأن. والسبب الرئيسي حسب بعض الفقه وخاصة الأساتذة:
Ph. Fouchard والمرحوم Rene David, E. Gaillard
(قبول اختصاص قضاة الدولة للنظر في الدفع المتعلق بشرط التحكيم) هو تفادي خسارة الوسائل المادية، ضياع الوقت، وتكبد المصاريف الباهظة التي تتطلبها مسطرة التحكيم أو على الأقل التقليص من ذلك. وهذا التعليل هو السائد لدى معظم الدول الأوروبية باستثناء ما ينص عليه القانون الفرنسي والمشروع المغربي والاتفاقية الأوروبية المشار اليها سابقاً.
فإمكانية تدخل محاكم الدولة أثناء سريان مسطرة التحكيم من شأنها أن تجنب الأطراف الانتظار الطويل الذي قد يصل الى عدة سنوات في بعض الحالات قبل الحصول على القرار النهائي للمحكمين، والذي سوف يفصل من جهة في الدفع بعدم اختصاص هؤلاء، ومن جهة ثانية في موضوع النزاع. علماً أن المقتضيات السابقة تتعلق بالقوانين الداخلية.
أما على صعيد الاتفاقيات الدولية، فلا نجد أي أثر لهذا المبدأ في جانبه السلبي، الذي يمنع على محاكم الدولة أن تنظر في الدفع المتعلق بوجود شرط التحكيم وصلاحيته، وذلك بمجرد عرض النزاع على هيئة المحكمين، حيث لم يتم التنصيص عليه سواء في القانون النموذجي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي المؤرخ في 1985/6/21 والمتعلق بالتحكيم الدولي، والذي استأنس به الكثير من المشرعين الوطنيين عند وضعهم لقوانين دولهم الخاصة بالتحكيم الدولي أو في اتفاقية نيويورك المتعلقة بالمصادقة على القرارات الأجنبية للمحكمين وتنفيذها المؤرخة في 10 يونيه 1958.
ويخول هذا الفراغ قضاة الدول الموقعة هاتين الاتفاقيتين صلاحية النظر في موضوع النزاع عندما يتبين لهم أن شرط التحكيم باطل، أو غير منتج أو ملغى أو غير قابل للتنفيذ.
4- ملاءمة الحلول:
إن هذا التطبيق الموسع لمبدأ "اختصاص اختصاص" الذي يعرفه القانون الفرنسي ومشروع المدونة المغربية للتحكيم الوطني والدولي يظل استثناء في القانون المقارن، مما يعني أن الأمر لا يتعلق فقط بالفارق الذي قد يوجد بين القانون الفرنسي وقانون دولة أخرى لم تنجح في التخلص من نظرتها النفورية للتحكيم، وإنما أيضاً بين دول تمتلك قانوناً حديثاً للتحكيم كالقانون الانجليزي، والقانون البلجيكي، والسويسري والهولندي والنمساوي، لذا فإن الوقت قد حان للبحث عن اتفاق أو ملاءمة للحلول المعتمدة من طرف التشريعات المختلفة أو الاتفاقيات الدولية.
ومن الضروري البحث عن حل لمواجهة الوضعيات الشائكة والمعقدة ويمكن في هذا الصدد لعدة اقتراحات أن تساعد على الحصول على تحسن ملحوظ في هذه الوضعيات، وهي موجهة في الأساس إلى الأطراف المتعاقدة، والمراكز الدائمة للتحكيم، ومجموعات العمل المكلفة بمراجعة الاتفاقيات الدولية والى قضاة مختلف الدول:
1- توصيات الى الأطراف المتعاقدة:
وهي تتعلق أساساً بضرورة الاهتمام أكثر ببنود النزاع في عقودهم، وعدم الانتقاص من أهميتها، أو اهمال مقتضياتها، والحرص بالخصوص على تحرير بند التحكيم.
وهذه البنود المتعلقة بتسوية النزاعات تزداد أهميتها أكثر فأكثر، وتشكل منذ مدة موضوع العديد من الدراسات المعمقة.
وهكذا يمكن لبند التحكيم الكامل أن ينص على أن أي مسطرة قضائية يتم سلوكها من طرف أحد الأطراف أمام محكمة أخرى غير لجنة التحكيم تعتبر باطلة، وهذا المقتضى يمكن تحريره أو النص عليه بشكل مستقل عن البند الاتفاقي في العقد لمواجهة أي دعوى سابقة لعرض النزاع على التحكيم.
2- التوصيات الموجهة إلى المراكز الدائمة:
يتعين على المراكز الدائمة للتحكيم عند أي مراجعة لنظامها في المستقبل أن تنص على أنه يجب عرض أي اعتراض يرفعه أحد الأطراف ضد اختصاص المحكم على هيئة مسبقة في أجل (أو النص على أجل محدد كشهر مثلا).
وهذا المقتضى سيقلص بشكل ملحوظ كل محاولات الطرف الآخر لعرض النزاع على محكمة أخرى.
3- توصيات موجهة الى مجموعات العمل أو المناظرات الدبلوماسية المكلفة بمراجعة الآليات الدولية الخاصة بالتحكيم:
بالرغم من أنه ليس هناك أي مشروع لمراجعة الاتفاقية الدولية لنيويورك لسنة 1958 المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ المقررات التحكيمية الأجنبية، وأنه في ظل وجود هذه الاتفاقية وكذا الاتفاقية الأوروبية حول التحكيم التجاري الدولي لسنة 1961، فانه من المفيد توسيع نطاق تطبيق المظهر السلبي لمبدأ "اختصاص – اختصاص" في هاتين الاتفاقيتين ليشمل الحالة التي لم يتم فيها اللجوء بعد الى قضاء التحكيم، عندما تكون القضية المعروضة على قاضي احدى الدول التي ينتمي اليها أحد الأطراف.
ان الفقرة الثالثة من المادة الثانية من اتفاقية نيويورك، والفقرة الثالثة من المادة 4 من اتفاقية جنيف في وضعهما الحالي تشملان فقط الحالات التي يكون قد تم فيها اللجوء فعلا الى المحكم.
4- توصيات الى قضاة الدول المختلفة:
وتتعلق بضرورة التعاون بشكل مفيد وفعال بينهم، وذلك بالاعلان بصفة تلقائية عدم قبول أي دعوى قضائية يكون موضوعها وجود أو صحة بند التحكيم اذا وجد في العقد بصفة مبدئية، وتم النص عليه بشكل مقبول. ومن شأن ذلك أن يترك للمحكمين سلطة الحكم، وهو ما يتطابق مع مبدأ احترام ارادة الأطراف واتفاقهم على التحكيم كوسيلة رضائية لحل النزاعات.