الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم الوطني والتحكيم الدولي / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد18 / العلاقة بين قضاء بلد منشأ الحكم التحكيمي وبين قضاء بلد تنفيذ حكم التحكيم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد18
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    187

التفاصيل طباعة نسخ


موقف القضاء المقارن من تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية التي أبطلت في دول المنشأ 

حدود وسلطات قاضي دولة التنفيذ

    أدت اتفاقية نيويورك لتنفيذ الأحكام التحكيمية الاجنبية دوراً مهما على صعيد تطوير التحكيم الدولي، ليحتل المكانة التي يحتلها الآن. وابرز ما تضمنته اتفاقية نيويورك ان الحكم التحكيمي يفقد مفاعيله في بلد التنفيذ اذا أبطل في بلد المنشأ. واستقر الأمر على ذلك الى ان اخذت رياح التشريع الأوروبي، وخصوصا الفرنسي تفك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ، ثم اخذ الاجتهاد في الولايات المتحدة يسير على هذه الخطى.

   وصدر حكم تحكيمي في سويسرا في دعوى تحكيمية أصبحت شهيرة بإسم Hilmarton أبطل فيها القضاء السويسري الحكم التحكيمي وأعطاه القضاء الفرنسي صيغة التنفيذ.

   وبعد أبطال الحكم صدر حكم تحكيمي جديد، وصارت صيغة التنفيذ حائرة بين الاثنين. ثم انفجر الموضوع مجددا في دعوى اشتهرت في الفكر القانوني الغربي عرفت باسم .Chromalloy

   صدر الحكم في القاهرة، ثم ابطلته محكمة استئناف القاهرة، ورغم ذلك اعطته محكمة واشنطن صيغة التنفيذ. فطرح موضوع العلاقة بين ابطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ، وأثر ذلك على تنفيذه. وأعيد طرح القاعدة التي سبق أن وضعتها اتفاقية نيويورك، من حيث ربط تنفيذ الحكم التحكيمي بسلامته وصحته من أي عيب في بلد المنشأ. وطرحت فكرة فك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ.

    وسنعرض كيف تطور الأمر، وما هي الأفكار المؤيدة والمعارضة، وما هي انسب الحلول؟ لا بد من القاء نظرة سريعة على معاهدة نيويورك في كلمات قليلة:

 

اولاً- معاهدة نيويورك 1958: '

   اتفاقية نيويورك التي تبنتها منظمة الأمم المتحدة سنة 1958، كانت ثورة في التشريع التحكيمي، لأنها قلبت عبء الاثبات بالنسبة إلى الحكم التحكيمي الدولي أو الأجنبي، مقارنة باتفاقية جنيف لسنة 1927 للتحكيم الدولي التي تبنتها عصبة الأمم آنذاك، والتي كانت سائدة قبلها.

   الثورة التي حققتها اتفاقية نيويورك سنة 1958 تكمن في أنها قلبت عبء الاثبات، جاعلة من الحكم التحكيمي في يد الفريق الحائز عليه سندا ثابتا يعتد به. من هنا فإن مجرد تقديم الحكم التحكيمي مع العقد التحكيمي يشكل ذلك اثباتاً على وجود حكم "الزامي"، وينقل بعد ذلك عبء الاثبات المعاكس على المطلوب التنفيذ ضده، ولا يعود القاضي ملزماً بإثارة ذلك من تلقاء نفسه، فصار الحكم التحكيمي مقبولاً حتى ثبوت العكس، وعبء اثبات العكس هو على الطرف الجاري التنفيذ ضده و الذي يجب أن يأتي بالدليل على اثبات:

  أ- أن أطراف العقد التحكيمي كانوا وفقا للقانون الذي يطبق عليهم عديمي الأهلية، أو أن العقد التحكيمي غير صحيح وفقا للقانون الذي أخضعه له الأطراف، وعند عدم النص

على ذلك في القانون، فطبقا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم مما يعزز سلطان الارادة على القوانين الداخلية. 

 وهذا مكسب آخر تحققه اتفاقية نيويورك، وهو خطوة ثورية في القانون الدولي للتحكيم.

 ب- خرق حقوق الدفاع: أن المطلوب التنفيذ ضده هو الذي يجب أن يثبت خرق حق الدفاع.

 ج- وعلى المطلوب التنفيذ ضده أن يثبت أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في العقد التحكيمي او تجاوز حدوده في ما قضى به.

د- كذلك على المطلوب التنفيذ ضده أن يثبت أن تشكيل المحكمة التحكيمية، او اجراءات

التحكيم، مخالفان للعقد التحكيمي، فاذا خلا العقد من خيار في هذا الشأن فيجب الاثبات ان تشكيل المحكمة التحكيمية او اجراءات التحكيم، كانا مخالفين لقانون البلد الذي يجري فيه التحكيم.

  هذا هو حجر الزاوية في الثورة التي حققتها اتفاقية نيويورك. 

   وهكذا، بمقتضى اتفاقية نيويورك، فإن قانون ارادة الطرفين هو الذي يرجح علی قانون البلد الذي يجري فيه التحكيم، والذي لا يطبق الا اذا خلا العقد التحكيمي من اختیار قانون معين لتطبيقه، بحيث أن اتفاقية نيويورك فكت الارتباط بين التحكيم الدولي وبين قانون البلد الذي يجري فيه التحكيم، تاركة لارادة الطرفین سلطان اختیار القانون الذي يريده الطرفان! 

فالتحكيم الدولي يحتاج، لانطلاق و ازدهاره، إلى أن يكون لسلطان الارادة ارجحية على القوانين الداخلية، ولا يرجح سلطان قانون داخلي على تحكيم دولي، الا اذا شاء سلطان الارادة ذلك، او اذا خلا العقد من خيار.

هـ- يجب على المنفذ عليه كي يوقف مفعول الحكم التحكيمي الدولي، ويمنع حائزه من تنفيذه، أن يثبت أن الحكم التحكيمي لم يصبح بعد الزاميا، أو ألغته او أوقفته السلطة المختصة في البلد الذي صدر فيه او الذي صدر هذا الحكم التحكيمي بموجب قانونه. هكذا حصر مجال إبطال الحكم التحكيمي الدولي: 

- في البلد الذي فيه او بموجب قانونه صدر الحكم.

- في البلد الذي يطلب التنفيذ فيه. 

أي ان اتفاقية نيويورك ربطت تنفيذ الحكم بسلامته في بلد المنشأ، وفي البلد الذي طبق قانونه لحسم النزاع.

  تتم الرقابة القضائية على الحكم التحكيمي بشكلين من أشكال المحاكمة وأصولها.

 1- اما مراجعة مباشرة ضد الحكم التحكيمي بمبادرة من الطرف الخاسر، والذي يبحث عن الابطال لمخالفة بعض القواعد المعتبرة أساسية في التحكيم.

 2- واما عند طلب اعطاء الحكم التحكيمي الصيغة التنفيذية بمبادرة من الطرف الرابح،

و الذي يتوقف منحه هذه الصيغة على تقيد الحكم ايضا بالقواعد المعتبرة أساسية في التحكيم.

   على الصعيد الدولي، فإن أول شكل للرقابة يطرح في بلد منشأ الحكم التحكيمي، أما الشكل الثاني فيطرح في كل البلدان التي يطلب فيها تنفيذ الحكم التحكيمي.

  وهذا الاطار مكرس ضمنياً في معاهدة نيويورك وبشكل واضح في القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته اليونسترال.

   الرقابة اذا على الحكم التحكيمي هي رقابة داخلية، وهي خاصة بكل دولة يدخل اليها الحكم التحكيمي أو يعترض فيها عليه. من هنا، يحصل نوع من مخاطر التباعد بين مواقف القضاة في كل بلد.

   فحكم تحكيمي يمكن أن يكون صحيحاً ونافذاً في بلد وباطلاً وفاقداً آثاره في بلد آخر.

   هذه التناقضات غير الملائمة لأمن التحكيم الدولي، أمكن تضييقها بالتعاون الدولي، ولاسيما بالمعاهدات المتعددة الطرف: 

   الأولى، هي معاهدة جنيف سنة 1927، ولكنها تشترط أن يكون الحكم التحكيمي قد أصبح نهائياً في بلد المنشأ من اجل اعطائه الصيغة التنفيذية في بلدان أخرى، الأمر الذي يفضي الى اشتراط حصول الحكم التحكيمي على صيغتين للتنفيذ. ولم يكن ذلك ليزيل مخاطر التناقضات حول مصير الحكم التحكيمي، فقاضي بلد التنفيذ بقيت له سلطة الرقابة على الحكم التحكيمي، اذ يمكن أن يرده برغم حصوله على صيغة التنفيذ في بلد المنشأ.

  الثانية، معاهدة نيويورك لتنفيذ الأحكام التحكيمية الاجنبية 1958 التي الغت الصيغتين التنفيذيين، ولكنها ابقت قاعدة تقضي بأن ابطال الحكم في بلد المنشأ هو سبب كاف لرفض تنفيذه في الخارج. ونظام معاهدة نيويورك قريب جداً من قانون التحكيم الدولي. ولكنه اعيد النظر فيه هذه الايام بأشكال مختلفة، بنتيجة مواجهته أوضاعا أصبحت معقدة وغير مستقرة.

  الثالثة، بالنسبة إلى البلاد العربية في اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي حول الاعتراف بالأحكام الصادرة في القضايا المدنية والتجارية والادارية والأحوال الشخصية وتنفيذها، والتي نصت في المادة 37 منها على الاعتراف بأحكام المحكمين، ولكنها اشترطت حيازة الحكم التحكيمي صيغة التنفيذ في بلد المنشأ لاعطائه صيغة التنفيذ في بلد التنفيذ وبالتالي ربطت التنفيذ ببلد المنشأ. '

ثانياً - الوضع القانوني السائد:

   يهدف نظام معاهدة نيويورك الى تأمين نوع من التنسيق الدولي في الرقابة القضائية على الأحكام التحكيمية، وتجنب ان يكون الحكم التحكيمي نافذاً في بلد وباطلاً في بلد آخر.

   الوسيلة التي اعتمدت للتنسيق بين مواقف مختلف المحاكم الوطنية هي في اعطاء فعالية دولية لابطال الحكم التحكيمي، فاذا ابطل في بلد المنشأ فقد فعاليته في بلد التنفيذ.

 ولكن، هذه الفعالية الدولية للإبطال تبدو اليوم في تراجع، ولكنه ليس تراجعاً اكيداً.

1- تأكيد الأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي:

   معاهدة نيويورك ترجح الأفضلية للرقابة القضائية في بلد المنشأ.

   المادة الخامسة من معاهدة نيويورك: (1-هـ) تنص على انه: ' 

  "لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم، الا اذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب اليها الاعتراف والتنفيذ الدليل على:

هـ- أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم او ألغته او أوقفته السلطة المختصة في البلد الذي فيه او بموجب قانونه صدر الحكم .

". والمادة السادسة من معاهدة نيويورك تنص على انه:

   "للسلطة المختصة المطروح أمامها الحكم - اذا رأت مبرراً- ان توقف الفصل في هذا الحكم اذا كان قد طلب الغاء الحكم او وقفه امام السلطات المشار اليها في الفقرة (هـ) من المادة السابقة

(في البلد الذي فيه او بموجب قانونه صدر الحكم). ولهذه السلطة ايضاً بناء على التماس طلب التنفيذ أن تأمر الخصم الآخر بتقديم تأمينات كافية".

   وبالتالي، فان اتفاقية نيويورك تحفظ القاضي دولة بلد المنشأ دوراً له الارجحية مرتين. من جهة اولى، فان حكمه بإبطال الحكم التحكيمي يفرض نفسه على القضاة الأجانب الذين تطلب منهم الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي. ومن جهة أخرى، فان هذه الأرجحية تتيح للطرف الخاسر مراجعة قاض بلد المنشأ للابطال، وهذه المراجعة كافية لشل أي طلب للتنفيذ مؤقتاً أمام القاضي الاجنبي.

 اذاً فان الـ 147 دولة المنضمة إلى معاهدة نيويورك تلتزم برفض اعطاء الصيغة التنفيذية اذا أبطل الحكم في بلد المنشأ. 

 

    على العكس من ذلك، فإن الأثر الدولي للإبطال يمتد أحياناً إلى سلطة قاضي بلد القانون الذي حسم النزاع على أساسه، اذا كان التحكيم في بلد والقانون المطبق لحسم النزاع في بلد آخر. في هذه الحالة يصبح هناك قاضيان اثنان مختصان بالابطال، ويمكن أن تصدر قرارات متناقضة من القضاءين دون أن تكون هناك أفضلية أو سلم أولوية بينهما.

 

2- هل تراجع الاثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي؟ 

   بعد ثلاث سنوات من ابرام اتفاقية نيويورك سنة 1958، وفي سنة 1961 وضعت اتفاقية جنيف الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي وسجلت خطوة إلى الأمام سجلت تراجعاً للأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي، وبعد ذلك واعتباراً من سنة 1980، اخذ بعض القضاة المحليين يرفضون الأخذ بابطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ وترتيب أي نتيجة على ذلك.

أ- اتفاقية جنيف الأوروبية لسنة 1961:

   الهدف الأساسي من هذه الاتفاقية كان تسهيل العلاقات التجارية بين دول اوروبا الشرقية ودول اوروبا الغربية التي تختلف في انظمتها الاقتصادية. وكان المنطلق أن التحكيم يسهل حسم المنازعات من اجل تحسين العلاقات. من هنا كان الاتجاه إلى تحسين بعض قواعد اتفاقية نيويورك.

   وهكذا سقط مبدأ هيمنة قاضي بلد المنشأ على قاضي بلد التنفيذ، بحيث أصبح بالإمكان اکثر تنفيذ حكم تحكيمي أبطل في بلد المنشأ، في بلد متعاقد، فكانت اتفاقية جنيف خطوة الى الأمام سجلت تراجعاً للأثر الدولي لأبطال الحكم التحكيمي، وكانت خطوة تجاوزت اتفاقية نيويورك.

ب- موقف قضاة بلدان التنفيذ

   في السنوات الأخيرة زاد تراجع الاثر الدولي لأبطال الحكم التحكيمي بفعل أحكام قضائية في عدة بلدان، ولاسيما في فرنسا.

   وهكذا فإنه وفقاً لاتفاقية جنيف الأوروبية، ليس للإبطال اي اثر دولي، الا اذا كان تسبيبه قائماً على واحد من الأسباب الأربعة الأولى في اتفاقية نيويورك، وبالتالي فاذا أبطل الحكم في بلد المنشأ لعدم قابلية النزاع للتحكيم، وفقاً لقانون هذا البلد، او لمخالفته النظام العام في هذا البلد المادة 5 (2))، فان هذا الأبطال لا يكون له أثر مقيد لقاضي التنفيذ في البلدان المنضمة الى معاهدة جنيف. والهدف الواضح للاتفاقية هو عدم تقييد قاضي التنفيذ بالابطال العائد الأسباب محض محلية في بلد المنشأ. '

 - في بلجيكا أعطت المحكمة المختصة الصيغة التنفيذية في 1988/12/6 لحكم تحكيمي صدر في الجزائر في 1985/12/29 وابطله القضاء الجزائري. وهذا الحكم البلجيكي استبعد تطبيق اتفاقية نيويورك التي أثارها الطرف الجزائري، ولكن الجزائر لم تكن قد انضمت إلى اتفاقية نيويورك بعد، حيث انها لم تنضم الأ سنة 1988، وطبقت المحكمة القضائية البلجيكية قانون التنظيم القضائي البلجيكي، ولاحظت أن المنفذ عليه لم يثر أي سبب من أسباب رفض الصيغة التنفيذية، كما أن أياً من الأسباب الأخرى غير متوافر، وفقاً للقانون البلجيكي، لذلك، استندت المحكمة البلجيكية إلى نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية الذي صدر الحكم بموجبه والذي يعتبر الحكم نهائياً وان تنازل الأطراف عن كل طرق المراجعة التي يمكن التنازل عنها. '

 - في بلجيكا ايضاً، ولكن تطبيقاً هذه المرة لاتفاقية نيويورك، اعطيت صيغة التنفيذ الحكم

تحكيمي صادر في عمان سنة 1994 ضد المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات التي الزمت بدفع تعويض في الحكم التحكيمي، واعترضت على تنفيذه، معتبرة أن هذا الحكم التحكيمي لا تتوافر فيه الحجية التي تفرضها المادة 4 من اتفاقية نيويورك ولا يصبح ملزماً وفقاً للمادة 5 (1)(هـ) الا بعد تصديق المحاكم الاردنية عليه، الأمر غير المتوافر. وردت المحكمة القضائية البلجيكية أن الأسباب التي تقتضيها معاهدة نيويورك لحجية الحكم التحكيمي متوافرة، لأن الحكم وتواقيع المحكمين غير منازع بها. واعتبر القضاء البلجيكي انه ليس مسلماً به آن الحكم التحكيمي المطعون فيه ليس ملزماً في القانون الأردني، وان صيغة التنفيذ ليست هي التي تعطي الحكم الزاميته الدولية، بل صيغة التنفيذ والمصادقة على الحكم التحكيمي لا تعني سوى تنفيذ الحكم التحكيمي في الأردن. وقرر القضاء البلجيكي أن الطابع الالزامي للحكم التحكيمي لا يحدده القانون الأردني، بل تكفي العودة إلى اتفاق الطرفين الذي ينص على أن "الحكم التحكيمي يصبح نهائيا وملزما للطرفين وينفذ فورا بعد صدوره، ولا يقبل الحكم التحكيمي لا الاستئناف ولا اعادة النظر".

   واضافت المحكمة البلجيكية: "ان الاتفاقية التحكيمية نصت على أن تنفيذ الأحكام التحكيمية تخضع لقواعد تنفيذ الأحكام التحكيمية في البلد الذي يطلب فيه التنفيذ، وبالتالي فان قانون البلد الذي صدر فيه الحكم لا يعود له هذه الأهمية". ' 

- اعطى القضاء الفرنسي الصيغة التنفيذية لحكم تحكيمي صدر في بولونيا في 1993/3/10 ، ولكن القضاء البولوني اتخذ قرارا بتعليق التنفيذ بنتيجة مراجعة طعن الحكم المذكور، واعتبر انه عملا بالمادة 7 من اتفاقية نيويورك فان قراري التعليق ومراجعة الابطال ليسا في حد ذاتهما سببا لرفض تنفيذ الحكم التحكيمي في فرنسا.

- واخيرا Hilmarton:

   ادعت شركة Hilmarton على شركة OTV مطالبة بدفع أتعاب اضافية لحظها عقد استشارات ووساطة من اجل الاستحصال على عقد اشغال عامة في الجزائر. رد المحكم الذي نظر في الدعوى مطالب شركة Hilmarton مستندا إلى بطلان عقد الوساطة،

   واعتبر الحكم التحكيمي أن العقد مخالف للقانون الجزائري الذي يمنع صرف النفوذ والرشوة، وبالتالي فهو مخالف للنظام العام الدولي. راجعت شركة Hilmarton بطلب إبطال قدم إلى محكمة كونتون جنيف التي قضت بابطال هذا الحكم التحكيمي وصادقت على ذلك المحكمة الفدرالية التي اعتبرت أن مخالفة القانون الجزائري لا تنقض الآداب العامة وفقا للقانون السويسري. 

   في هذه الاثناء تقدمت شركة OTV بطلب اعطاء الحكم التحكيمي صيغة التنفيذ في فرنسا فحصلت عليها في 1990/2/27 فأستأنفت شركة Hilmarton قرار اعطاء صيغة التنفيذ، ولكن محكمة بداية باريس صدقت على قرار رئيس محكمة بداية نيويورك، معتبرة أن ابطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ لا يشكل سبباً لرفض اعطاء الصيغة التنفيذية، عملاً بالمادة 1502 اصول مدنية فرنسي. 

   في سويسرا، استعادت المحاكمة التحكيمية سيرها بعد اعادة تشكيلها بفعل ابطال الحكم التحكيمي، وبمبادرة من شركة Hilmarton، وبالنتيجة صدر حكم تحكيمي جديد، من محكم آخر في 1992/4/10 يلزم هذه المرة شركة OTV بدفع العمولة المطلوبة. 

 

طلبت شركة Hilmarton في 1993/2/25 من رئيس محكمة بداية نانتير الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الثاني وفي 1993/9/22 اعطيت صيغة التنفيذ الحكم المحكمة الفدرالية السويسرية الذي يبطل الحكم الأول. في الوقت نفسه قدمت شركة Hilmarton طلب نقض لقرار اعطاء الحكم التحكيمي الأول صيغة التنفيذ وبتاريخ 1994/3/23 ردت محكمة النقض الطلب المقدم من شركة Hilmarton واعتبرت أن المادة السابعة من اتفاقية نيويورك تجيز لشركة OTV التذرع بقواعد القانون الفرنسي حول صيغة تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية الصادرة خارج فرنسا. وتلاحظ مرة اخرى ان المادة 1502 اصول مدنية فرنسي لا تنص على أن إبطال حكم تحكيمي في بلد المنشأ هو سبب لعدم اعطاء الحكم التحكيمي صيغة التنفيذ، واضافت محكمة النقض الفرنسية: "ان الحكم التحكيمي الصادر في سويسرا هو حكم تحكيمي دولي ليس مدغما في النظام القانوني لهذا البلد، وبالتالي فان وجوده يبقى قائمة رغم إبطاله، وبالتالي فان الاعتراف به ليس مخالفة للنظام العام الدولي". 

 وتعقدت الأمور أكثر، حين أصدرت محكمة استئناف فرساي قرارين، الأول باعطاء صيغة التنفيذ الحكم المحكمة الفدرالية السويسرية الذي يبطل الحكم التحكيمي الأول، والثاني باعطاء صيغة التنفيذ للحكم التحكيمي الثاني الذي يلزم شركة OTV بدفع عمولة. واعتبرت محكمة الاستئناف في فرساي أن صيغة التنفيذ المعطاة للحكم التحكيمي الأول لا يمكنها أن تجمد النزاع في النظام القانوني الفرنسي "وان النظام العام الدولي لا يمنع الاعتراف في فرنسا بالحكمين التاليين للحكم التحكيمي الأول. وان قوة القضية المقضية المرتبطة بالصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الأول لا تمنع تنفيذ الحكم التحكيمي الثاني. هذا القول نقضته محكمة التمييز الفرنسية، التي نقضت بدون طلب نقض الحكمين الصادرين عن محكمة استئناف فرساي، وبالتالي فان الحكم التحكيمي الأول الذي أبطلته المحكمة السويسرية، هو وحده الذي أصبح معترفا به في النهاية.

 واصبح الوضع في غاية التعقيد، اذ صارت شركة OTV الفرنسية حائزة في بلدها فرنسا حكما قضائيا يعطي الحكم التحكيمي الذي جرى ابطاله صيغة التنفيذ. بينما شركة Hilmarton التي ربحت الدعوى التحكيمية في النهاية وصدر حكم تحكيمي لصالحها لم يعد بامكانها تنفيذ هذا الحكم التحكيمي في فرنسا، لأن الأول اكتسب قوة القضية المقضية. 

- في 1997/1/14 اعطت محكمة استئناف باريس صيغة التنفيذ في فرنسا لحكم تحكيمي صادر في مصر و ابطلته محكمة استئناف القاهرة في قضية كرومالوي Chromalloy اساس النزاع عقد تموين عسكري ابرم سنة 1988 بين مصر وشركة كرومالوي الأميركية وفسخ سنة 1991 بطلب من شركة كرومالوي. وصدر حكم تحكيمي في القاهرة في 1994/8/24 يلزم الدولة المصرية بأن تدفع للشركة الأميركية تعويضات. 

طلبت الشركة الأميركية تنفيذ الحكم التحكيمي في الولايات المتحدة، وطلب الخصم إبطاله في مصر، فاستجابت محكمة استئناف القاهرة الطلب وأبطلت الحكم في 1995/12/5 ، مستندة إلى المادة 53 (1) من القانون المصري للتحكيم التي تجيز الأبطال: "اذا استبعد الحكم التحكيمي تطبيق القانون المتفق عليه لحسم النزاع"، واستندت المحكمة القضائية في الابطال إلى أن المحكمين كان يجب أن يطبقا القانون الاداري المصري وليس القانون المدني المصري". ا

ولكن محكمة مقاطعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، في قرار اتخذته في 1996/7/31، اعترفت بالحكم التحكيمي الذي جرى إبطاله واعطته صيغة التنفيذ. واستندت إلى المادة السابعة من معاهدة نيويورك، ثم لاحظت أن القانون الأميركي لا يجيز لقاضي التنفيذ رد تنفيذ حكم تحكيمي، حتى ولو ارتكب، في اسوأ الاحتمالات، خطأ في القانون، كذلك استندت إلى اتفاقية الطرفين التي استبعدت أية مراجعة ضد الحكم التحكيمي، واعتبرت المحكمة الأميركية أن الاعتراف بقوة قرار قضائي اجنبي يتعرض الحكم تحكيمي اكتسب الدرجة القطعية ولم يعد قابلا للمراجعة باتفاق الطرفين، سيكون مخالفا للنظام العام الأميركي الذي يلزم باحترام العقود التحكيمية وخاصة الدولية.

ثالثاً- تقييم قانوني:

اثارت هذه الخلافات في المواقف وهذه الأحكام القضائية عاصفة في الفقه.

1- انتقاد الاجتهاد الفرنسي - الأميركي:

  اعتبر الفقه أن هذا التيار الفرنسي الأميركي غير منطقي في القانون وغير مناسب في

الواقع.

   في القانون: ان حكماً تحكيمياً أبطل في بلد المنشأ لا يعود له وجود. فكما هو في النظام القانوني لبلد المنشأ هكذا يجب أن يكون في الخارج، لأن بلد مكان التحكيم يبقى عنصر ارتباط اساسي في التحكيم الدولي، وكل الاتجاهات الحديثة لم تنجح في فك هذا الارتباط وازالة شرعية هذا الارتباط وفائدته، فقانون وقاضي مكان التحكيم يبقى لهما منطقياً الدور الأساسي والأول. واطراف النزاع اختاروا مكان التحكيم، لأن لهم الحق في اختياره، الأطراف هؤلاء يكونون قد اختاروا اخضاع الحكم التحكيمي لرقابة قاضي مكان التحكيم، وبالتالي اخضاع الحكم لامكانية الابطال. فاذا صدر حكم الأبطال. فان رفض اعطاء آثار دولية لهذا الأبطال هو "خيانة" لارادة الطرفين وخروج عن هذه الارادة، وهذا يفضي إلى فوضى في التحكيم الدولي. ذلك انه اذا فقد حكم الأبطال الأجنبي مفاعيله فان الدولة التي تستقبل الحكم ستتخذ موقفاً داخلياً غير متلائم مع متطلبات اللياقة الدولية.

   وكذلك فإن نظام اتفاقية نيويورك سيتطاير اشلاء وتزول امكانية التنسيق الدولي في الرقابة على الحكم التحكيمي التي تهدف المادة الخامسة (1) إلى تأمينها، فيبطل الحكم التحكيمي في بلد وينفذ في بلد آخر، ويرد في بلد ثالث. فالطرف المستفيد من الحكم التحكيمي سيبحث عن القاضي الاكثر تساهلاً وتسامحاً، وان لم تكن على ارضه اموال ولا حسابات مصرفية او املاك للطرف المحكوم عليه. هذا السباق على الصيغة التنفيذية سيولد عدم استقرار مضر بصورة التحكيم الدولي، ستصيب سمعة التحكيم الدولي واستقراره وتطوره كوسيلة أمينة لحسم سريع لخلافات التجارة الدولية.

ولكن الاعتراف بحكم أبطل في بلد آخر ليس جديداً. '

  فكثيرة هي عقود الزواج والوصية الخ... التي تعتبر غير صحيحة او باطلة في بلد، ويعترف بها في بلدان أخرى. ذلك ليس سوى نتيجة تعدد الأنظمة القانونية والقضائية ذات السيادة والتنازع القضائي، كما التنازع بين القوانين.

 

2- مساندة الاجتهاد الفرنكو-أميركي: 

   هذا الاجتهاد لا مأخذ عليه في القانون فهو يطبق المادة 7 من اتفاقية نيويورك ويحترم روح هذه المادة. فالنص لا يتعلق بالقواعد الأكثر فائدة لتنفيذ الأحكام التحكيمية الاجنبية وامام قواعد اکثر ملاءمة تتراجع اتفاقية نيويورك من اجل فعالية دولية أكبر للأحكام التحكيمية.

   أضف إلى ذلك، أن حكم قاضي بلد المنشأ ليس مطلقاً حتى في نظام اتفاقية نيويورك، فالحكم الذي يقضي برد المراجعة ضد الحكم التحكيمي في بلد المنشأ لا يحصن هذا الحكم ولا يمنع قاضياً اجنبياً آخر من ممارسة رقابته على الحكم التحكيمي الذي ردت المراجعة ضده في بلد المنشأ، كلما طلب منه استقبال هذا الحكم في نظامه القانوني وبامكان قاضي التنفيذ طبعاً رفض اعطاء الصيغة التنفيذية لحكم تحكيمي يعتبره قاضي بلد المنشأ صحيحاً ومستوفياً كل الشروط .

   ولعله من غير الطبيعي ولا من المقبول أن يعطي قاضي دولة ما سلطة محو آثار حكم تحكيمي لا يروق له في العالم كله. والمخاطر تبقى كبيرة اذا كان هذا الابطال غير مبرر في سائر الدول ومبنياً على اعتبارات قانونية محلية محض في حين أن الحكم التحكيمي الذي أبطل في بلد ما قد يكون طريقه سالكا في باقي دول العالم.

   من هنا يتبين أن الأفضلية المعطاة لقاضي مكان التحكيم من اجل التنسيق في الرقابة على الحكم التحكيمي تتضمن مخاطر كبيرة والحد من هذه المساوئ ليس أمراً مرفوضاً، وهل يجب القول ان هذه الأفضلية مناقضة للإتجاه الحالي بعدم ربط التحكيم الدولي بمكان التحكيم.

   قد يبدو في الوقت الحاضر من غير الواقعي ازالة أي اتصال قانوني بين التحكيم الدولي والبلد الذي يجري فيه التحكيم لأسباب عملية او للحاجة الى تدخل قاض محلي للمساندة، واذا كان من المعقول اخراج التحكيم من قيود البلد الذي يجري فيه التحكيم فان فك الارتباط هذا يبقى أفقاً في المستقبل لا يمنع رقابات محلية متعددة في بلدان تنفيذ الحكم التحكيمي.

 

رابعا- المستقبل... وموقف:

 حاولت لجنة قانون التجارة الدولية في الأمم المتحدة ال UNCITRAL التحرك في اتجاه معالجة موضوع تجاوز اتفاقية نيويورك: هل تلغي المادة 5(1)(هـ) بحيث تتراجع سلطات قاضي بلد المنشأ عن الحكم التحكيمي؟ ويبقى الحكم محلقاً غير مرتبط ببلد المنشأ او ببلد القانون المطبق؟ وهل تنشأ فوضى ترتد على التحكيم بنتيجة ذلك؟ ام يجب تدعيم دور قاضي بلد المنشأ؟

   يبدو أن دولاً قليلة تقبل التنازل عن سلطة البلد الذي يستقبل الحكم التحكيمي! ودول كثيرة لا تقبل التنازل عن سلطات قاضي مكان التحكيم. 

لجنة القانون التجاري الدولي في الامم المتحدة ال UNCITRAL تخلت عن محاولة تعديل اتفاقية نيويورك وانصرفت إلى اصدار قانون نموذجي للتحكيم الدولي وقواعد للتحكيم، وهو قانون وقواعد لا تخرج عن اطار اتفاقية نيويورك.

   هل يكون الحل في رقابة وحيدة هي لقاضي بلد التنفيذ بحيث تلغي طرق المراجعة في بلد المنشأ؟ وهو الحل الذي اعتمده المشرع البلجيكي سنة 85، ثم عدله سنة 98، بحيث أجاز ذلك الأطراف النزاع ولم يعد هو القاعدة؟ وهل ذلك منطقي؟

   هناك رأي يقول: "لماذا ابطال حكم تحكيمي في بلد لن ينفذ فيه؟ ولماذا إبطاله طالما انه لن يكون لهذا الأبطال أثر في بلد التنفيذ؟ أليس من غير المنطقي أن يفرض قاضي بلد على سائر قضاة بلدان العالم موقفه ورأيه في حكم تحكيمي وهو ليس سوى عمل قانون خاص؟ والرأي الساعي لتحرير الحكم التحكيمي من الارتباطات يستند إلى ما تقول محكمة النقض الفرنسية من ان الحكم التحكيمي لا يدعم في النظام القانوني للدولة التي جرى فيها التحكيم، كما هو وضع العقد  في المكان الذي وقع فيه. الحكم التحكيمي والعقد ليس لهما جنسية، كل دولة حرة في اعطائه او حرمانه من صيغة التنفيذ.

من الواضح أن في سماء الفقه و الاجتهاد والتشريع الدولي التحكيمي غيوما كثيرة، والمواجهة اليوم تدور بين تيارين. 

   تیار فقهي مدعوم بالاجتهاد الذي اشرنا اليه سابقاً وحجر الزاوية فيه الفكرة الفرنسية عن حكم تحكيمي دولي مفكوك الارتباط بأي قضاء و بأي قانون وبأي بلد، ولا أثر لإبطاله في بلد المنشأ على قرار قاضي بلد التنفيذ، وهذا الرأي المبالغ في سعيه لتحرير التحكيم من القيود والارتباطات له ما يبرره قانونياً. '

    فعقد الزواج، كما الوصية اذا ابرما في الجزائر، وارتكبا مخالفة للقانون الجزائري في اصول ابرامهما، يبقى لهما مفعولهما في مصر وفي سويسرا، ولو أبطل عقد الزواج او الوصية في الجزائر.

   ورجلا الأعمال الياباني والأميركي اللذان يلتقيان في فندق مطار هندي ويوقعان عقداً لمشروع بينهما في بلد اوروبي او في بلد عربي، فان هذا العقد يعطي آثاره حتى ولو أبطله قاض هندي، لأنه لم يراع اصولاً وشكليات يقضي بها القانون الهندي، فقاضي بلد الاستقبال ليس ملزماً بقرارات بلد المنشأ، والمحكم ليس معبراً عن سلطة.

   ويدعو فقه هذا التيار الى ترك الحرية كاملة لقاضي بلد التنفيذ بحيث لا يحرم الحكم التحكيمي من صيغة التنفيذ، الا اذا ثبت له عيب يفضي إلى إبطاله، حتى ولو لم يبطل بعد في بلد المنشأ، اما ما عدا ذلك فهو غير مقيد. ويستند تيار آخر إلى الترجمات المختلفة لاتفاقية نيويورك ويستند إلى أن المادة التي تقول بالنص العربي "لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي... الا اذا قدم الخصم... الدليل على:

1) انعدام الأهلية. 2) لم يعلن الخصم اعلاناً صحيحاً. 3) الحكم في فصل في نزاع غير

وارد في مشارطة التحكيم. 4) أن الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم او الغته او اوقفته السلطة المختصة في البلد الذي فيه او بموجب قانونه صدر الحكم. 

   والنص العربي مأخوذ عن النص الفرنسي، بينما النص الانكليزي والروسي والاسباني يقول: "...may be refused... only if ....

   وبالتالي فلو ترجم النص العربي من الانكليزية يصبح: "يجوز رفض الاعتراف ورفض تنفيذ الحكم التحكيمي فقط في حالة اذا قدم الخصم...".

    وبالتالي تكون اتفاقية نيويورك لا تقيد قاضي بلد التنفيذ بقرارات قاضي بلد المنشأ ...

   يصبح بإمكانه ولا يعود ملزماً برفض الاعتراف وتنفيذ الحكم التحكيمي اذا اثبت الخصم "ان الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو الغته او أوقفته السلطة في البلد الذي فيه او بموجب قانونه صدر الحكم...

   اذا قاضي بلد التنفيذ بإمكانه رفض التنفيذ، وبالتالي أصبح لديه الخيار . 

وهذا مخرج...

   ولكن الملاحظ أن القوانين الحديثة، السويسرية والانكليزية والألمانية (المأخوذة عن القانون النموذجي لليونسترال)، كما القانون النموذجي لليونسترال لم ينح منحى القانون الفرنسي في فك الارتباط بين تنفيذ الحكم التحكيمي وقرارات قاضي بلد المنشأ...

   إلى جانب هذا التيار المتحرر والمبالغ في تحرره هناك تيار آخر، يدعو إلى احترام قرارات قاضي بلد المنشأ وتقييد قاضي بلد التنفيذ بها الا اذا وجد قاضي بلد التنفيذ "أن قاضي بلد المنشأ كان متحيزاً في حكمه ومتعسفا في تفسير قانونه..." بحيث يعفي قاضي بلد التنفيذ من التقيد بحكم يبطل الحكم التحكيمي في بلد المنشأ، اذا تضمن هذا الحكم نقضأ فادحا وفاضحا لقانون بلد المنشأ نفسه.

   فلا يعود الأمر، أمر احترام قاضي بلد التنفيذ القرار بلد المنشأ، بل أمر مزيد من الاحترام القانون بلد المنشأ.

  وأمر تجاوز اتفاقية نيويورك ضروري وبالامكان ان يتم من خلال اتفاقية نيويورك ذاتها.

    فالمادة السابعة من اتفاقية نيويورك تفتح باب الاستفادة من اتفاقيات وقوانين تؤمن للحكم التحكيمي طريقا أسهل للتنفيذ.

   كذلك الترجمة الانكليزية للمادة الخامسة من اتفاقية نيويورك تعطي قاضي التنفيذ الحرية في الالتزام او عدم الالتزام بحكم قاضي بلد المنشأ.

   وهذه نوافذ من اجل ان يكون للحكم التحكيمي فعاليته و آثاره المضمونة ولا يبقى تحت رحمة مزاج قاض في بلد المنشأ.

    يبقى الاعتبار الأساسي لقرارات قاضي بلد المنشأ نابعاً من سلطان الارادة ذاته. فمن الصعب تجاهل قرارات قاضي بلد المنشأ طالما أن سلطان الارادة هو الذي اختار هذا البلد مع النتائج المترتبة على ذلك من تطبيق قانونه في قواعده الآمرة ورقابة قاضية. فسلطان الارادة حين اختار... انما اختار بحرية ومسؤولية ووعي، وخيار مكان التحكيم ليس نزهة سياحية، بل خيار القانون و اختصاص القاض. وسلطان الارادة حين يحدد مكان التحكيم يجب أن يبحث عن القانون التحكيمي الانسب والاجتهاد القضائي الأفضل المساند للتحكيم، وعدم الأخذ بقرارات قاضي بلد المنشأ فيه عدم احترام السلطان الارادة، في ما اختار أن يخضع له تحكيمه.

   ومن الصعب جدا الأخذ بالموقف الفرنسي الذي يفك الارتباط ببلد المنشأ. من الصعب أن تسلم سيادة الدول بذلك، وان تقبل هذا التنازل بالغاء دور الرقابة القاضي بلد المنشأ حين يحصل التحكيم لديها واحالة الرقابة بكاملها إلى قاضي بلد التنفيذ.

     واكبر دليل على ذلك أن اتفاقية انشاء السوق الأوروبية المعقودة سنة 1957 الزمت الدول الأعضاء على المفاوضة لتأمين اعتراف وتنفيذ متبادل للقرارات القضائية، كما وللأحكام التحكيمية.

   وبالفعل، جرت المفاوضات، وتضمنت اتفاقية بروكسل في المواد من 26 إلى 29 نصوصا تؤمن حرية التنقل للأحكام القضائية الأوروبية بدون رقابة لا على الشكل ولا على الاختصاص ولا على الأساس، ولكنها لم تذهب اكثر من ذلك لتشمل الأحكام التحكيمية.

    وفي الدول العربية كان الوضع ذاته مع اتفاقية الرياض المتعلق بابها الخامس بالاعتراف بالأحكام الصادرة في القضايا المدنية والتجارية والادارية وقضايا الأحوال الشخصية وتنفيذها" : ففي هذه الاتفاقية يجب أن يأتي الحكم التحكيمي الى بلد التنفيذ مكتسيا صيغة التنفيذ من قضاء بلد المنشأ الأمر الذي يجعل اتفاقية الرياض في مرتبة اقل من مرتبة اتفاقية نيويورك في تنفيذ الأحكام التحكيمية.

    والحل هو أن يبقى لقاضي بلد المنشأ رقابة، وان يحترم قاضي بلد التنفيذ قرار قاضي بلد المنشأ بمقدار ما احترم وراعي هذا القرار الاعتبارات الدولية في إبطاله للحكم، فاخضاع الحكم التحكيمي الدولي في طرق المراجعة لأحكام قانونية محض محلية داخلية وابطاله على هذا الأساس، فيه نقض لروح القانون، اذ تطبق النصوص القانونية الداخلية على أحكام تحكيمية دولية.

    وحتى لا يبقى الأمر ضبابياً، فيمكن هنا ايضاً اعتماد اتفاقية نيويورك في مادتها الخامسة بحيث نعتمد على أربعة من الأسس والمقاييس الدولية التي اعتمدتها اتفاقية نيويورك لتنفيذ او عدم تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية وهي: 

1- عدم اعلان الخصم اعلاناً صحيحاً بتعيين المحكم وباجراءات المحاكمة.

2- الحكم قد تجاوز المهمة التحكيمية.

3- ان تشكيل المحكمة التحكيمية او اجراءات التحكيم مخالف لما اتفق عليه الاطراف

او للقانون.

 4- مخالفة النظام العام.

    وفقاً لهذه الأسس الأربعة، التي يمكن اعتبارها مقاييساً دولياً، يمكن القاضي بلد المنشأ آن يراقب الحكم التحكيمي الدولي الذي صدر في هذا البلد، ولكن الرقابة يجب أن لا يكون فيها أي تعسف او تجاوز.

    ان تجاوز اتفاقية نيويورك ممكن وضروري لأن التحكيم، ولاسيما التحكيم الدولي، اصبح يؤدي دوراً أكبر وأهم وأخطر في التجارة والتوظيف الدوليين منذ سنة 1958 حين اقرت اتفاقية نيويورك، ويمكن أن يتم ذلك من خلال اتفاقية نيويورك ذاتها.

    وكلما سهلنا للحكم التحكيمي طرق التنفيذ ساعدنا التحكيم على أن يبقى ضماناً للتوظيف وللاستثمارات الدولية ووفرنا للاستثمارات والتوظيفات الدولية طريقاً سالكاً لما فيه خير الاقتصاد العالمي.

  ويبقى مطلوباً من الفقه ولاسيما الدولي الكثير.

    وكذلك من الاجتهاد، فالمحاكم، الأوروبية والأميركية، هي التي وضعت قواعد التحكيم وهي التي سارت به ليصل إلى حيث هو وماذا يمنع محاكم دول العالم النامي أن تحذو حذوها؟

    مطلع هذا القرن كان المشرعون الأوروبيون كلهم معادون عداء سافرة للتحكيم، فأخذ الاجتهاد يفتح ابواباً ويوجد منافذاً فارتسمت مجموعة من القواعد القانونية التي ساهم الفقه مع الاجتهاد في ترسيخها على أسس متينة، ثم جاء المشرع والاتفاقات الدولية لتبني كل ذلك.

    وامام تحديات العولمة والخصخصة، لا يزال الطريق طويلاً، ولكنه ليس ببعيد امام الفقه والاجتهاد ليتجاوزا اتفاقية نيويورك من أجل أحكام تحكيمية تجد طريقاً آمناً وسالكاً للتنفيذ.