ونظام التحكيم ليس اتفاقاً محضاً ولا قضاء محضاً، بل أنه نظام مختلف فهو نظام يمر في مراحل متعددة يلبس في كل منها لباسا خاصا ، فهو في أوله اتفاق وفي وسط إجراء، وفي أخره حكم، لذلك فإن طبيعة كل مرحلة من تلك المراحل تمتاز بطبيعة خاصة مختلفة عن كل مرحلة من المراحل التي تسير العملية التحكيمية.
ووفقاً لهذه النظرية فإن نظام التحكيم بما فيه المهمة التي يقوم بها المحكم لها طبيعة مزدوجة، فتلك المهمة التي تقوم على أساس وجود عقد اتفاق بين أطنان التحكيم على اللجوء إلى نظام التحكيم، ومن ثم اتفاق على من يتولى مهمة الفصل في الخصومة المعروضة على التحكيم، ومن ناحية أخرى فكل أن المهمة تنتهي بحكم يجوز حجية الأمر المقضي به كما هو الحال في الأحكام . القضائية.
لذلك تم تكييف طبيعة المهمة التي يقوم بها المحكم بأنها ذات طبيعة مختلطة كون فكرة العقد المتمثلة في اتفاق الأطراف، وفكرة القضاء المتمثلة في الحكم الذي يصدره المحكم تتداخلان مما أدى إلى القول بأن مهمة المحكم التي يقوم بها ذات طبيعة مختلطة، ولهذا فإن النقاش حول وضع المحكم وتكييف طبيعة مهمته لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج حاسمة، فنظام التحكيم تجتمع فيه عناصر من الطبيعة التعاقدية وعناصر الطبيعة القضائية، وبالتالي لا يمكن إنكار أي منهما، لذلك كله اعتبر نظام التحكيم ومهمة المحكم في حقيقته نظاماً مختلطاًوعملا مختلطاً أو هجيناً، وإن تصديق الحكم الذي يصدره المحكم يكون من اختصاص المحكمة المختصة، وهي الجهة الوحيدة التي يحق لها أن تصادق على الحكم.
و إن تكييف طبيعة المهمة التي يؤدها المحكم بأنها ذات طبيعة مختلطة، نتيجة لصعوبة إدماج عمل أطراف الخصومة، والمتمثل في اتفاق التحكيم المبرم بين طرفي الخصومة والمحكمة على أساس قيامه بالفصل بين الخصوم بحكم حاسم، وذلك بإدماج أحدهما في الآخر، فتلك الصعوبة أدت إلى سحب طبيعته الخاصة، وتكييفها على أساس الطبيعة المختلطة، كون نظام التحكيم هو حقيقة ممتدة في الزمن تبدأ باتفاق التحكيم وتنتهي بشموله حكم المحكم بأمر التنفيذ، وخلال تلك الفترة الزمنية يتعاقب عليها طابعان: الطابع الأول هو الطابع التعاقدي، والذي يجسد اتفاق التحكيم، والطابع الثاني هو الطابع القضائي، والذي يمثله المحكم بأداء مهمته وهي القيام بالفصل في الخصومة المعروضة عليه بحكم حاسم لها يحوز حجية الأمر المقضي به.
و أن ظاهرة تعارض الأحكام التي يتم إصدارها في مجال التحكيم تفسرها لنا الطبيعة المختلطة لنظام التحكيم، فجواز الطعن على حكم المحكمين بدعوی أصلية، وأحقية الخصوم في تحديد إجراءات التحكيم، واختيار القانون الذي سيحكم تلك الإجراءات، و موضوع الخصومة، وجواز التنازل عن الاستئناف ، فكل تلك الإجراءات لا يفسرها سوى التأثير التعاقدي على طبيعة هذا النظام، وأما بالنسبة لاحترام المحكم لمبدأ المواجهة، والتزامه بتسبيب أحكامه، وجواز رده، وسلطاته في إدارة الخصومة، وأحقيته في البحث عن أدلة الإثبات التي تساهم في إنجاح العملية التحكيمية لا يفسرها إلا التأثير القضائي على طبيعة التحكيم، وكل تلك الإجراءات التي يجوز للمحكم اتخاذها تساهم في نجاح العملية التحكيمية، وحسب هذا الرأي فهي تؤكد على أن المهمة التي يؤديها المحكم مهمة ذات طبيعة مختلطة تشترك فيها خصائص من الطبيعة التعاقدية وخصائص من الطبيعة القضائية.
أما عن أوجه انتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية تتمثل في الأتي:-
1- أن أنصار هذه النظرية قد اختاروا أسهل الحلول ولم يتصدوا لجوهر المشكلة ذاته، وذلك بربطهم بين حجية أحكام المحكمين وبين القوة التنفيذية لتلك الأحكام، وهذا ربط غير دقيق كون الأمر بتنفيذ أحكام المحكمين إنما يتعلق بالقوة التنفيذية لتلك الأحكام، ومن ثم فلا علاقة لها بحيازة الأحكام للحجية من عدمه، وإذا قيل بأن أحكام المحكمين قبل الأمر بتنفيذها لا تعد أحكاما قضائية، وبالتالي لا تحوز الحجية وهذا ما ذهب إليه أنصار هذه النظرية ولا يكون لهذه الأحكام الحجية إلا بعد الأمر بتنفيذها، فإن من شأن هذا الرأي إهدار نظام التحكيم برمته، وهذا ما يتنافى مع مقصود المشرع.
2- أن هذه النظرية لا تنفي الصفة القضائية عن مهمة المحكم، لكون أطراف التحكيم هم من يتفقون على تحديد الإجراءات، وكذلك المحكمة المختصة، فتلك الإجراءات تبدأ باتفاق مبرم بين الخصوم ثم تمر بمراحل الإجراءات التي يمر بها نظام التحكيم، إلى أن يقضي المحكم في الخصومة بحكم ملزم كالحكم القضائي، والواقع أن حكم محكمة الدولة نفسه يمكن أن يبدأ باتفاق وينتهي بقضاء.
3- أن رأي أنصار هذه النظرية اتسم بضعف التأصيل القانوني، لتكييفهم مهمة المحكم بأنها ذات طبيعة مختلطة.
تقييم هذه النظرية:
تتسم هذه النظرية بأنها قد أسبغت على طبيعة مهمة المحكم التي يقوم بها، صبغة تعاقدية وصبغة قضائية، فهذه النظرية أخذت موقفاً وسطاً فلا هي تعاقدية ولا هي قضائية، كما أن قيام المحكم بأداء مهمته قائم على أساس وجود اتفاق بين طرفي الخصومة التحكيمية لتوليته الفصل في خصومتهما، لذلك فالمهمة تبدأ بالعقد وتنتهي بإصدار حكم ملزم قابل للتنفيذ، فهو بذلك كالحكم الصادر من القضاء، ومن ثم يلجأ الأطراف إلى السلطة القضائية لتنفيذ ذلك الحكم، ومن ثم صدور الأمر من السلطة القضائية بتنفيذ ذلك الحكم، وبالتالي يصبح ذلك الحكم حكما قضائيا، ويحوز حجية الأمر المقضي به، وعلى ضوء ذلك كله فالمهمة التي يقوم بها المحكم هي مهمة مركبة ذات طبيعة مختلطة تبدأ بالعقد وتنتهي بالقضاء، فهي ذات طبيعة مزدوجة قائمة على الاتفاق لحل الخصومة والوصول بتلك الخصومة إلى حكم منه لها.